تلبيس إبليس على جميع النَّاس بطول الأمل
قال المصنف رحمه الله :
كم قد خطر على قلب يهوديٍّ ونصرانيٍّ حُبُّ الإسلام، فلا يزال إبليس يثبِّطه، ويقول: لا تعجلْ، وتمهَّلْ في النظر، فيسوِّفه، حتَّى يموت على كفره.
وكذلك يسوِّف العاصي بالتوبة، فيعجل له غرضه من الشهوات، ويمنِّيه الإنابة؛ كما قال الشاعر:
لا تَعْجَلِ الذَّنبَ لِمَا تَشْتَهِي * وَتأْمَلِ التَّوْبةَ مِن قابِلِ
وكم مِن عازمٍ على الجدِّ سَوَّفه، وكم مِن ساعٍ إلى فضيلة ثبَّطه.
فلربَّما عَزَم الفقيه على إعادة درسه، فقال: استرحْ ساعةً. أو انتبه العابدُ في الليل يصلِّي، فقال له: عليك وقتٌ.
ولا يزالُ يحبِّب الكسلَ، ويُسوِّفُ العملَ، ويُسندُ الأمر إلى طول الأَملِ.
فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم، والحزمُ تداركُ الوقتِ، وترك التسوُّف، والإعراض عن الأمل، فإن المخَوّف لا يُؤمَنُ، والفواتَ لا يُبعثُ.
وسبب كلِّ تقصير في خيرٍ، أو ميل إلى شرٍّ: طولُ الأمل، فإنَّ الإنسان لا يزال يحدِّث نفسه بالنُّزوع عن الشَّرِّ، والإقبال على الخير؛ إلا أنَّه يَعِدُ نفسَه بذلك.
ولا ريب أنَّ مَنْ أمَّل أنْ يمشيَ بالنَّهارِ؛ سار سيرًا فاترًا، ومَن أمَّلَ أنْ يُصبِحَ؛ عَمِلَ في الليل عملاً ضعيفًا، ومَن صوَّر الموتَ عاجلاً؛ جَدَّ.
وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم : (( صَلِّ صلاةَ مُوَدِّعٍ )).
وقالَ بعضُ السَّلَفِ: أُنذِرُكُمْ (سوفَ)؛ فإنَّها أكبرُ جنود إبليس.
وَمَثَلُ العامِلِ على الحزم والسَّاكنِ لطولِ الأملِ؛ كَمَثَلِ قوم في سَفَر، فدخلوا قرية، فمَضَى الحازمُ، فاشترى ما يصلُحُ لتمام سَفَره، وجَلَس متأهِّبًا للرَّحيل. وقال المفرِّط: سأتأهَّب، فربَّما أقمنا شهرًا، فضُرِبَ بُوقُ الرَّحيل في الحال، فاغْتَبَطَ المحترِزُ، وتوعَّك الآسفُ المفرِّط!
فهذا مَثَلُ الناس في الدُّنيا، منهم المستعدُّ المستيقظ، فإذا جاءَ مَلَكُ الموت؛ لم يندَمْ، ومنهم المغرور المسوِّف، يتجرَّع مرير النَّدم وقت الرحلة، فإذا كان في الطَّبع حبُّ التَّواني وطولُ الأمل ثُمَّ جاء إبليس يحثُّ على العمل بمقتضى ما في الطَّبع؛ صَعُبَتْ المجاهدة، إلا أنَّه مَنِ انتبه لنفسه؛ عَلِمَ أنَّه في صفِّ حربٍ، وأنَّ عَدُوَّهُ لا يفتُرُ عنه، فإنْ فتر في الظاهر؛ أبطنَ له مكيدةً، وأقام له كمينًا.
ونحن نسأل الله عز وجل السَّلامة من كيد العدوِّ، وفتن الشيطان، وشر النفوس والدنيا، إنه قريبٌ مجيبٌ.
جَعَلَنا اللهُ مِن أولئك المؤمنين.
نقلاً من كتاب (( تلبيس إبليس )) لأبي الفرج ابن الجوزي -رحمه الله-