| مختصر تفسير ابن الكثير | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:42 | |
| مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة
قال أبو بكر بن الأنباري: نزل في المدينة من القرآن (البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، وعشر من التحريم، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر اللّه) هؤلاء السور نزلت في المدينة وسائر السور بمكة.
فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك.
وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها.
فصل:
واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة؟ فقيل: من الأرتفاع (قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب)
فكأن القارىء ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها كيور البلد لإحاطته بمنازله ودوره، وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزءاً منه.
وأول الآية: فأصل معناها العالامة، سميت بذلك لانقطاع الكالم الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، أي هي بائنة عن أختها ومنفردة قال تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}.
وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها.
وأما الكلمة: فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل "ما" و"لا" ونحو ذلك وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل {أنلزمكموها} و{فأسقيناكموه} وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل {والضحى} ومثل {والفجر}
فصل:
قال القرطبي: أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية ك (ابراهيم) و (نوح) و (لوط) واختلفوا: هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية؟ فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا: ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم (انظر التحقيق الذي ذكرناه في كتابنا "التبيان في علوم القرآن" صفحة /225/ تحت عنوان (هل في القرآن الكريم ألفاظ غير عربية) ؟. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:43 | |
| @تفسير الاستعاذة
- 1 - قال اللّه تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}
- 2 - وقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يَحضرون}.
- 3 - وقال تعالى: {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.
فهذه ثلاث أيات ليس لهنَّ رابعة في معناها.
فاللّه تعالى يأمر بمصانعة (العدوّ الأنسي) والإحسان إليه، ليرده عنه طبعه إلى الموالاة والمصافاة.
ويأمر بالاستعاذة من (العدوّ الشيطاني) لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}؟
وقد أقسم لآدم وكذب عليه، فكيف معاملته لنا وقد قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}؟ وقالت طائفة من القراء: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية. والمشهور الذي عليه الجمهور: أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية {فإذا قرأت القرآن} أي إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام، ويدل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح صلاته بالتكبير والثناء ثم يقول:" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه" (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري وأخرجه أصحاب السنن الأربعة)
ومعنى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أي أستجير بجناب اللّه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أُمرت به، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا اللّه، والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى اللّه تعالى من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذُ يكون لطلب الخير كما قال المتنبي:
يا من ألوذُ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به ممّا أحاذره
لا يجبرُ الناسُ عظماً أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره
و (الشيطان) في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: من شاط لأنه مخلوق من نار والأول أصح، قال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلانُ إذا فعلَ فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل متمرد من جني وإنسي وحيوانٍ "شيطانا" قال تعالى{شياطين الإنس والجن} وركب عمر برذوناً فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان لقد أنكرت نفسي (رواه ابن وهب عن زيد بن أسلم عن أبيه وإسناده صحيح)
و (الرجيم) فعيل. بمعنى مفعول، أي أنه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كما قال تعالى: {وجعلناها رجوما للشياطين} وقال تعالى:{وحفظناها من كل شيطان رجيم. إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:47 | |
| سورة الفاتحة
@1 - بسم الله الرحمن الرحيم
$تفسير البسملة
روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} (رواه أبو داود بإسناد صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه)
وقد افتتح بها الصحابة كتاب اللّه، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام: "كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أجذم" فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه" (رواه أحمد وأصحاب السنن من رواية أبي هريرة مرفوعا) وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون، وتستحب عن الأكل لقوله عليه السلام: " قل: بسم اللّه، وكلْ بيمينك، وكلْ ممّا يليك" (رواه مسلم في قصة عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم) وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: "لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه أن يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً" (رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم )
والمتعلق بالباء في قوله (بسم اللّه) منهم من قدّره باسم تقديره: باسم اللّه ابتدائي، ومنهم من قدّره بفعل تقديره: أبدأ باسم اللّه، أو ابتدأت باسم اللّه، وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بدَّ له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، فالمشروعُ ذكر اسم اللّه في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل، ويدل للأول قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها} ويدل للثاني في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
و (اللّه) علمٌ على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه (الأسم الأعظم) لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلى هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وفي الصحيحين: "إنّ للّه تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" (رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم )
وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم (الشافعي) و (الغزالي) و (إمام الحرمين) وقيل: إنه مشتقُّ من أله يأله إلاهةً، وقد قرأ ابن عباس {ويذرك وإلاهتك} أي عبادتك، وقيل: مشتقُّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقُّ من ألهتُ إلى فلان: أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى: {ألا بذكر اللّهِ تطمئنُ القلوب}، وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء.
{الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و{رحمن} أشد مبالغة من {رحيم} وزعم بعضهم أنه غير مشتق، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: "أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" (أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال القرطبي: وهذا نصٌ في الإشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب لاسم {الرحمن} لجهلهم باللّه وبما وجب له، وبناء فعلان ليس كفعيل، فإن (فعلان) لا يقع إلاّ على مبالغة الفعل نحو قولك (رجلٌ غضبان) للممتلىْ غضباً، و (فعيل) قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال ابن جرير: {الرحمن} لجميع الخلق، {الرحيم} بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى {الرحمن على العرش استوى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال: {وكان بالمؤمنين رحيما} فخصهم باسمه الرحيم. فدلّ على أن {الرحمن} أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و {الرحيم} خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى {الرحمن} خاص لم يسم به غيره، قال تعالى: {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} وقال تعالى: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون}؟ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه اللّه جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا (مسيلمة الكذّاب) فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكّد به، والمؤكِّدُ لا يكون إلا أقوى من المؤَكَّد،
والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه، فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل: إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف ب {الرحمن الرحيم} إلا اللّه تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجّهه بذلك واللّه أعلم.
والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم (اللّه) و (الرحمن) و (الخالق) و (الرازق) ونحو ذلك، وأما (الرحيم) فإن اللّه وصف به غيره حيث قال في حق النبي: {بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان: {فجعلناه سميعا بصيرا}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:48 | |
| @2 - الحمد لله رب العالمين
$ قال ابن جرير: معنى {الحمد للّه} الشكر للّه خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً، {الحمد للّه} ثناءٌ أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد للّه، ثم قال: وأهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر.
قال ابن كثير: وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعديه، والشكرُ لا يكون إلا على المتعديه، ويكون بالجَنَان، واللسان، والأركان كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجّبا
وقال الجوهري: الحمد نقيض الذم تقول: حمدت الرجل أحمده حمداً فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعمّ من الشكر، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال، شكرته وشكرتُ له وباللام أفصح، وأما المدح فهو أعمّ من الحمد لأنه يكون للحي، وللميت، وللجماد، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعديه واللازمة أيضاً فهو أعم.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: أفضلُ الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمدُ للّه (رواه الترمذي عن جابر بن عبد اللّه وقال: حسن غريب) وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما أنعم اللّه على عبدٍ نعمة فقال: الحمد للّه، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ (رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك) "
وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدَّثهم "أن عبداً من عباد اللّه قال: يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال اللّه لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها (رواه ابن ماجة عن ابن عمر) "
والألف واللاّم في (الحمد) لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث: "اللهم لك الحمد كُلُّه، ولك الملك كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه" الحديث.
{رب العالمين} الربُّ هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكلُّ ذلك صحيح في حق اللّه تعالى، ولا يستعمل الرب لغير اللّه إلا بالإضافة، تقول ربُّ الدار، وأما الرب فلا يقال إلا للّه عزّ وجلّ. و{العالمين} جمع عالم وهو كل موجود سوى اللّه عزّ وجلّ، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر، والبحر.
وقال الفراء وأبو عبيد، العالم عبارة عمّا يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم. وقال الزجاج: العالم كلٌّ ما خلق اللّه في الدنيا والآخرة، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين
قال تعالى: {قال فرعون وما ربُّ العالمين؟ قال ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} والعالم مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وحدانيته جلَّ وعلا كما قال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإل * ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:49 | |
| @3 - الرحمن الرحيم
$ وقوله تعالى {الرحمن الرحيم} قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالحمن الرحيم بعد قوله {رب العالمين} ليكون من باب قرن (الترغيب بالترهيب) كما قال تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} وقوله: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب، وفي الحديث: "لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبه ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من رحمته أحد (رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً) "
@4 - مالك [ملك] يوم الدين
قرأ بعض القراء (مَلِك) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر، و (مالك) مأخوذ من المِلْك كما قال تعالى: {إنا نحن نرثُ الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون}، و (ملك) مخوذ من المُلك كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم}؟ وقال: {الملك يومئذ الحق للرحمن} وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هناك كل شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى {لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صوابا}، وقال تعالى: {يوم يأتي لا تكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه}، وعن ابن عباس قال: يوم الدين يوم الحساب للخلائق، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه.
والمِلْكُ في الحقيقة هو اللّه عز وجل، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز، وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: يقبض اللّه الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون (رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً)
و (الدين) : الجزاء والحساب كما قال تعالى {إئنا لمدينون} أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث: "الكيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث شداد بن أوس مرفوعاً) أي حاسب نفسه، وعن عمر رضي اللّه عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا". | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:50 | |
| @5 - إياك نعبد وإياك نستعين
$ العبادةُ في اللغة: مأخوذة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل.
وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وفدّم المفعول وكرّر للإهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة والتفويض إلى اللّه عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن: {فاعبده وتوكل عليه}، {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} وتحول الكلام من الغيبة إلى الماجهة، لأنه لما أثنى على اللّه فكأنه اقترب وحضرر بين يدي اللّه تعالى فلهذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} بكاف الخطاب، وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبرٌ من الله تعالى بالثناء على نفسه بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك.
وإنما قدّم {إياك نعبد} على {وإياك نستعين} لإن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أني يقدم ما هو الأهم فالأهم، فإن قيل: فما معنى النون في (نعبد) و (نستعين) فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب: بأن المراد من بذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فردٌ منهم ولا يسما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير، (وإياك نبعد) ألطفُ في التواضع من (إياك عبدنا) لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نفسه وحده أهلاً لعبادة اللّه تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يَشْرُف به العبد لانتسابه إلى جناب اللّه تعالى كما قال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
وقد سمّى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بعبده في اشرف مقاماته فقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وقال: {وأنه لما قام عبد اللّه يدعوه}، وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه للدعوة، وإسرائه به. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:51 | |
| @6 - اهدنا الصراط المستقيم
$ لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة ولهذا أرشد اللّه إليه لأنه الأكمل.
والهداية ههنا: الإرشاد والتوفيق وقد تُعدَّى بنفسها {اهدنا الصراط} وقد تعدى بإلى {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} وقد تُعدى باللام {الحمد للّه الذي هدانا لهذا} أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا {الصراط المستقيم} فهو في لغة العرب: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم تستعير العرب الصراط في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السلف الخلف في تفسير {الصراط}، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو (المتابعة للّه وللرسول) فروي أنه كتاب اللّه، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين اللّه الذي لا اعوجاج فيه، وقال ابن الحنفية: هو دين اللّه الذي لا يقبل من العباد غيره، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث (النوالس بن سمعان) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ضرب اللّه مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه وذلك الداعي على رأس لاصراط كتاب اللّه، والداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلم (رواه أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان وأخرجه الترمذي والنسائي) وقال مجاهد: الصراط المستقيم: الحق، وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، قال ابن جرير رحمه اللّه والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفِّق لما وفِّق له من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين فد وفّق للإسلام.
(فإن قيل) : فكيف يسال المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وهو متصف بذلك؟
فالجواب: أن العبد مفتقر في كل ساعةٍ وحالة إلى اللّه تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها واستمراه عليها، فارشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونه ولاثبات والتوفيق، فقد أمر تعالى الذين آمنوا بالإيمان: {يا أيها الذين آمنوا أمنوا بالله ورسوله}، والمراد الثباتُ والمداومةُ على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الخميس 12 أكتوبر 2006, 19:51 | |
| @7 - صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
$ قوله تعالى {صراط الذين أنعمت عليهم} مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء: {ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن ألوئك رفيقا}، وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، وذلك نظير الآية السابقة، وقال الربيع بن أنَس: هم النبيّون، وقال ابن جريج ومجاهد: هم المؤمنون، والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل.
وقوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} بالجر على النعب، والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام ب (لا) ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، فجيء ب (لا) لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكنْ أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: {من لعنه الله وغضب عليه} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل} وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} قال: هم اليهود {ولا الضالين} قال: النصارى (رواه أحمد والترمذي من طرق وله ألفاظ كثيرة) ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) ومعناه: اللهم استبج، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" (رواه أبو داود وابن ماجة وزاد فيه (فيرتج بها المسجد)
(فصل فيما اشتملت هذه السورة الكريمة - وهي سبع آيات - على حمد اللّه وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو (يوم الدين) وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرىء من حولهم وقوّتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو (الدين القويم) وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنّات النَّعيم، في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوامع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضّالّون.
وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله: {أنعمت عليهم} وحذف الفاعل في الغضب في قوله: {غير المغضوب عليهم} وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال.
لا كما تقول القدرية من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم وهذا حال أهل الضلال والغي.
وقد ورد في الحديث الصحيح: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله "فاحذروهم" فليس - بحمد اللّه - لمبتدع في القرآن حجةٌ صحيحة لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل، مفرقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقضٌ ولا اختلاف، لأنه من عند اللّه: {تنزيل من حكيم حميد}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:26 | |
| سورة البقرة @1 - الم
- 2 - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
$ {الم} اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي ممّا استأثر اللّه بعلمه فردوا علمها إلى اللّه ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره، ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال بعضهم: هي أسماء السور، قال الزمخشري: وعليه إطباق الأكثر، وقيل: هي اسم من أسماء اللّه تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفةٍ من صفاته، فالألف مفتاح اسم (الله) واللام مفتاح اسمه (لطيف) والميم مفتاح اسمه (مجيد) وقال آخرون: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً ل (إعجاز القرآن) وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، حكاه الرازي عن المبرد وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الإمام (ابن تيمية) وشيخنا الحافظ (أبو الحجاج المزي) .
قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي الصريح في أماكن، وجاء منها على حرف واحد مثل {ص} وحرفين مثل {حم} وثلاثة مثل {الم} وأربعة مثل {المص} وخمسة مثل {كهيعص} لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.
قال ابن كثير: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الإنتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق} {المص كتاب أنزل إليك} {الم كتاب أنزلناه إليك} {الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه} {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر.
{ذلك الكتاب} قال ابن عباس: أي هذا الكتاب. والعربُ تعارض بين أسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر وهذا معروفٌ في كلامهم. والكتابُ: القرآن، ومن قال: إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فقد أبعدَ النُجعة، وأغرق في النزع، وتكلّف ما لا علم له به. والريبُ: الشك، أي لا شك فيه، روي ذلك عن أُناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً.
وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل:
بثينةُ قالت: يا جميلُ أربتني * فقلت: كلانا يا بثينُ مريب
واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم:
قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجممنا السيوفا
والمعنى: إن هذا الكتاب (القرآن) لا شك فيه أنه نزل من عند اللّه كما قال تعالى: {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} وقال بعضهم: هذا خبرٌ ومعناه النهي، أي لا ترتابوا فيه. وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن، لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأرباب كما قال تعالى {وهدى ورحمة للمؤمنين} قال السَّدي: {هدى للمتقين} يعني نوراً للمتقين، وعن ابن عباس: المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة اللّه، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم. وقال قتادة: هم الذين نعتهم اللّه بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}، واختيار ابن جرير أنَّ الأية تعمُّ ذلك كله، وهو كما قال. وفي الحديث الشريف: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما بأس به حذراً مما به بأس" (رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن غريب).
ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقد على خلقه في قلوب العباد إلا اللّه عز وجلّ قال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} وقال: {ليس عليك هداهم} وقال: {من يضلل الله فلا هادي له} ويطلق ويراد به بيان الحق والدلالة عليه، قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقال: {ولكل قوم هاد} وقال: {وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}.
وأصل التقوى التوقي ممّا يكره لأن أصلها (وَقَوى) من الوقاية، قال الشاعر:
فألقتْ قِناعاً دونه الشمسُ واتَّقَت * بأحسنِ موصولينِ كفٍ معْصَم
وسأل عمرُ (أُبيَّ بن كعب) عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال : بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمَّرتُ واجتهدتُ، قال: فذلك التقوى، وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوبَ صغيرَها * وكبيرَها ذاكَ التُّقَى
واصْنَع كماشٍ فوقَ أرْ *ضِ (أرض) الشوك يحذَرُ ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرة * إنَّ الجبال من الحصى
وفي سنن ابن ماجة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما استفاد المرء بعد تقوى اللّه خيراً من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله" (رواه ابن ماجة عن أبي أمامة رضي اللّه عنه).
@3 - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
$ الإيمان في اللغة يُطلق على التصديق المحض كما قال تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}، وكما قال اخوة يوسف لأبيهم: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً عملاً، هكذا ذهب أكثر الائمة وحكاه الشافعي وأحمد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة، ومنهم من فسره بالخشية: {إنّ الذين يخشون ربهم بالغيب} والخشيةُ خلاصة الإيمان العلم: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}.
وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، فقال أبو العالية: يؤمنون باللّه وملائكته وكتبه ورسله، وجنته ولقائه، وبالحياة بعد الموت فهذا غيبٌ كله. وقال السُّدي عن ابن عباس وابن مسعود: الغيبُ ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن. وقال عطاء: من آمن باللّه فقد آمن بالغيب. فكل هذه متقاربة في معنى واحد والجميع مراد.
روى ابن كثير بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: "كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بَيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحدٌ قط إيماناً أفضلَ من إيمانٍ بغيب، ثم قرأ: {الذين يؤمنون بالغيب - إلى قوله - المفلحون (رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم: وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) } وفي معنى هذا الحديث ما رواه أحمد عن (ابن محيريزٍ) قال: قلت لأبي جمعة حدثْنا حديثاً سَمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثاً جيداً: "تغدينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول اللّه: هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: نعم قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" (رواه أحمد عن أبي جمعة الأنصاري وله طرق أخرى) وفي رواية أُخرى عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذ (رجاء بن حيوة) رضي اللّه عنه، فلما انصرف خرجنا نشيِّعه فلما أراد الإنصراف قال: إنَّ لكم جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلنا: هات رحمك اللّه، قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ومعنا معاذ ابن جبل عاشر عشرة - فقلنا يا رسول اللّه: هل من قومٍ أعظم منا أجراً؟ آمنا بك واتبعناك، قال: "ما يمنعكم من ذلك ورسول اللّه بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين، يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً، أولئك أعظم منكم أجراً "(رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن صالح بن جبير عن بي جمعة).
وقوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} قال ابن عباس إقامة الصلاة: إتمامُ الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:
لها حارسٌ لا يبرح الدهرَ بيتَها * وإن ذبحت صلَّى عليها وزمزما
وقال الأعشى أيضاً:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود بشروطها المعروفة وصفاتها المشهورة.
{ومما رزقناهم ينفقون} قال ابن عباس: زكاة أموالهم. وقال ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نفقةُ الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال قتادة: فأنفقوا مما أعطاكم اللّه، هذه الأموال عوارٍ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات. قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن اللّه تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق اللّه وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والإبتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه، والانفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكلٌ من النفقات الواجبه والزكاة المفروضة داخلٌ في قوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون}.
@4 - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
$ قال ابن عباس: يصدّقون بما جئت به من اللّه وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم {وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان، وإنما سميت (الآخرة) لأنها بعد الدنيا. وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:
أحدها: أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانيا، وهم كل مؤمنٍ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب.
والثاني: هم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفاتٍ على صفات كما قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى} فعطف الصفات بعضها على بعض.
والثالث: أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفون ثانياً بقوله: {يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} هم مؤمنو أهل الكتاب، واختاره ابن جرير ويستشهد بقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} وبقوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} وبما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، ورجل مملوك أدّى حقَّ اللّه وحقَّ مواليه، ورجل أدّب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" (رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري).
قلت: والظاهر قول مجاهد: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآياتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسيّ وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأُخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأُخرى، وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول، وما جاء به من قبله من الرسل، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر اللّه المؤمنين بذلك كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} وقال تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد} وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله} الآية.
@5 - أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
$ يقول تعالى: {أولئك} أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول، والإيقان بالآخرة {على هدى} أي على نور وبيان وبصيرة من اللّه تعالى، {ولأولئك هم المفلحون} أي في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس {على هدى من ربهم} أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به {وأولئك هم المفلحون} أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما هربوا. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:27 | |
| @6 - إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
$ يقول تعالى: {إن الذين كفروا} أي غطوا الحق وستروه، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به كما قال تعالى: {إنَّ الذين حقَّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آيةٍ حتى يروا العذاب الإليم} أي إن من كتب اللّه عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا يهمنك ذلك {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
وعن ابن عباس في قوله {إن الذين كفروا} الآية قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللّه تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللّه السعادةُ في الذكر الأول، ولا يضلّ إلاّ من سبق له من اللّه الشقاء في الذكر الأول.
وقوله تعالى: {لا يؤمنون} جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين.
@7 - ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم
$ {ختم اللّه} أي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم {وعلى أبصارهم غشاوة} فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. قال مجاهد: الختم: الطبعُ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبعُ، والطبعُ الختم، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: {بل طبع الله عليها بكفرهم}، وفي الحديث "يا مقلِّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك".
قال ابن جرير: وقال بعضهم: إن معنى قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} إخبار من اللّه عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دُعوا إليه من الحق، كما يقال: فلان أصمَّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه ورَفَع نفسه عن تفهمه تكبراً، قال: وهذا لا يصح لأن اللّه قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم. قلت: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردّه ابن جرير ههنا، وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً، وما جرّأه على ذلك إلا اعتزاله، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليه قبيح عنده يتعالى اللّه عنه في اعتقاده. ولو فهم قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحا بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسنٌ وليس بقبيح - فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال.
قال ابن جرير: والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبرُ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةً سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال اللّه تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}" (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة وقال الترمذي: حسن صحيح. ومعنى استعتب: رجع عن الإساءة، وطلب الرضى. كذا في النهاية لابن الأثير.) فأخبر صلى اللّه عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل اللّه تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره اللّه في قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعيه والظروف.
@8 - ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
- 9 - يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون
$ لما تقدم وصف المؤمني في صدر السورة بأربع آيات، ثمّ عرف حال الكافرين بآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولمّا كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كلٌ منها نفاق، كما أنزل سورة "براءة" وسورة "المنافقين" فيهم، وذكرهم في سورة "النور" وغيرها من السور، تعريفاً لأحوالهم لتُجتَنَبَ ويُجتنب من تلبّس بها أيضاً، فقال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله ..} الآيات.
والنفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي: وهو من أكبر الذنوب، لأن المنافق يخالف قولُه فعله، وسره علانيَتَه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة المدنية، لأن مكّة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه، ولهذا نبّه اللّه سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الإحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفّار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظنَّ بأهل الفجور خيراً، فقال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} أي يقولون ذلك قولاً كما قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله}، أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر، وليس الأمر كذلك، كما كذبهم اللّه في شهادتهم بقوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} وفي اعتقادهم بقوله: {وما هم بمؤمنين}.
وقوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} أي بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون اللّه بذلك وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وما يخدعون إلا أنفسَهم وما يشعرون} أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون) وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد.
@10 - في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون
$ {في قلوبهم مرضٌ} أي شكٌّ {فزادهم الله مرضا} شكاً، وعن ابن عباس {مرضٌ} نفاقٌ {فزادهم الله مرضاً} نفاقاً، وهذا كالأول. وقال عبد الرحمن بن أسلم: هذا مرضٌ في الدين وليس مرضاً في الأجساد، والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام {فزادهم الله مرضاً} أي زادهم رجساً. وقرأ: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون. وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} يعني شراً إلى شرهم، ضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله هو الجزاء من جنس العمل {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} وقرئ (يَكْذبون) و (ويُكَذّبون) وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا، وحكمة كفّه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين، مع علمه بأعيان بعضهم ما ثبت في الصحيحين أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لعمر رضي اللّه عنه: "أكره أين يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه" (هو جزء من حديث شريف أخرجه الشيخان) ومعنى هذا خشيته عليه السلام أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه. وقال الشافعي: إنما منع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يجبُّ ما قبله، وفي الحديث المجمع على صحته: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه عز وجل" (أخرجه الشيخان وهو حديث متواتر) ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} الآية فهم يخالطونهم في المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم {وحيل بينهم وبين ما يشتهون}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:29 | |
| @11 - وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون
- 12 - ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون
قال السُّدي عن ابن مسعود وعن أُناسٍ من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم : هم المنافقون، والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية، وقال أبو العالية: {لا تفسدوا في الأرض} يعني لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية اللّه، لأنه من عصى اللّه في الأرض، أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وقال مجاهد: إذا ركبوا معصية اللّه فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون.
قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب باللّه وكتبه ورسله على أولياء اللّه إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، وغرَّهم بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولهذا قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس {إنما نحن مصلحون} أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب يقول اللّه تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} يقول: ألا إن هذا الذي يزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.
@13 - وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون
$ يقول تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس} أي كلإيمان الناس باللّه وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به، وأطيعوا اللّه ورسوله في امتثال الأوامر، وترك الزواجر {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}؟ يعنون - لعنهم اللّه - أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة، وهم سفهاء؟
والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بالمصالح والمضار، ولهذا سمى اللّه النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل اللّه لكم قياما} وقد تولى سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال: {ألا إنهم هم السفهاء} فأكد وحصر السفاهة فيهم {ولكن لا يعلمون} يعني ومن تمام جهلهم أنه لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
@14 - وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
- 15 - الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون
$ أي، وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين: قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة، غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم {وإذا خلوا إلى شياطينهم} يعني إذا انصرفوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمّن "خلوا" معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم، ورؤساؤهم من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين والمنافقين، قال السُّدي عن ابن مسعود {وإذا خلوا إلى شياطينهم} يعني رؤساءهم في الكفر، وقال ابن عباس: هم أصحابهم من اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقال قتادة: رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر (وهو قول أبي العالية والسُّدي والربيع بن أنَس وغيرهم)، قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} وقوله تعالى: {قالوا إنا معكم} أي إنا على مثل ما أنتم عليه {إنما نحن مستهزءون} أي إنما نستهزىء بالقوم ونلعب بهم، وقال ابن عباس: {مستهزئون} ساخرون بأصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم: {الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم {ويمدهم} يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم كقوله تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}، قال ابن جرير: أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} الآية، وفي قوله: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} الآية، قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء اللّه تعالى ومكره وخديعته بالمنافقين وأهل الشرك، وقال آخرون: استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ارتكبوا من معاصيه، وقال آخرون: قوله: {الله يستهزىء بهم}، وقوله: {يخادعون الله وهو خادعهم}، وقوله: {نسوا الله فنسيهم} وما أشبه ذلك إخبار من اللّه أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، معاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف (يسمى هذا النوع عند علماء البيان (المشاكلة) وهو أن تتفق الجملتان في اللفظ وتختلفا في المعنى كقول القائل:
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه * قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما، وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك والعمه: الضلال، يقال: عمه عمهاً إذا ضل، وقوله: {في طغيانهم يعمهون} أي في ضلالتهم وكفرهم يترددون حيارى، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن اللّه قد طبع على قلوبهم، وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً، وقا بعضهم: العمه في القلب، والعمى في العين، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً كم قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:30 | |
| @16 - أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
قال السدي عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابه {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وعن ابن عباس {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي الكفر بالإيمان، وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا، وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى. وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}.
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة ولهذا قال تعالى: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك وقال ابن جرير عن قتادة: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
@17 - مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون
- 18 - صم بكم عمي فهم لا يرجعون
$ يقال: مَثَل، والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقِلها إلا العالمون}، وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها ... فبينما هو كذلك إذا طفئت ناره وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا (أصم) لا يسمع، (أبكم) لا ينطق، (أعمى) لو كان ضياء لما أبصر، فهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم.
وقال الرازي: والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال تعالى: {مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} وقال بعضهم: تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون}، وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام.
وقوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان، {وتركهم في ظلمات} وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. {لا يبصرون} لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صم} لا يسمعون خيراً، {بكم} لا يتكلمون بما ينفعهم، {عمي} في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} إلى آخر الآية... قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
@19 - أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين
- 20 - يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير
$ هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أُخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (كصيِّب) والصيب: المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق، و (رعد) : وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم}، وقال: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون، لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون} و (البرق) : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب. والله من ورائهم محيط} أي بهم، ثم قال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان.
قال ابن عباس: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وعن ابن عباس: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا: أي متحيرين. وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضىء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} وقال في حق المؤمنين: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار} الآية. وقال تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه. نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا. واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}.
وقوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}، قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته، {إن الله على كل شيءقدير}: أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى (قدير) قادر كما معنى (عليم) عالم. وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين. وتكون (أو) في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} بمعنى الواو، كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} أو تكون للتخيير. أي اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا. قال القرطبي: أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، ووجَّهه الزمخشري بأن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
(قلت) : وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات، كما ذكرها اللّه تعالى في سورة (براءة) - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعلُ هذن المثلين لصنفين منهم أشدُّ مطابقة لأحوالهم وصفاتهم واللّه أعلم، كما ضرب المثلين في سورة (النور) لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين، وفي قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة}، إلى أن قال: {أو كظلمات في بحر لُجّي} الآية. فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، واللّه أعلم بالصواب. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:31 | |
| @21 - يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
- 22 - الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
$ شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيدة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً: أي مهداً كالفراش، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشامخات. {والسماء بناءً} وهو السقف، كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون}، {وأنزل من السماء ماء} والمرادُ به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم. ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار ساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال، قلت: يا رسول الله أيِّ الذنب أعظم عند اللهّ؟ قال: "أن تجعل للّه نداً وهو خلقك" الحديث. وكذا حديث معاذ: أتدري ما حق اللّه على عباده؟ "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" (هو جزء من حديث أخرجه الشيخان) الحديث، وفي الحديث الآخر: "لا يقولنَّ أحدكم ما شاء اللّه وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء اللّه ثم شاء فلان". وعن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى اللّه عليه وسلم : ما شاء اللّه وشئت، فقال: "أجعلتني لله نِدّاً؟ قل ما شاء اللّه وحده" (أخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس) وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد واللّه أعلم.
قال ابن عباس، قال الله تعالى : {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وعنه أيضاً {فلا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون}: أي لا تشركوا باللّه غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر {وأنتم تعلمون} أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. قال أبو العالية: {فلا تجعلوا لله أنداداً} أي عدلاء شركاء، وقال مجاهد {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
(ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة)
روى الإمام أحمد بسنده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن اللّه عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطىْ بها فقال له عيسى عليه السلام إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإمّا أن تبلغهن وإمّا أن أبلغهن؟ فقال: يا أخي أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخْسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشَّرف فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: إن اللّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن. أولهن أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً فإن مَثَل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بَوَرِق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلّته إلى غير سيده،، فأيكم يسرّه أن يكون عبده كذلك؟ وإن اللّه خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأمركم بالصلاة فإن اللّه ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا وأمركم بالصيام فإن مَثَل ذلك كمثل رجل معه صره من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مّثّل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ فشدُّوا يديه إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه فقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه. وأمركم بذكر اللّه كثيراً وإن مَثَل ذلك كمثل رجلٍ طلبه العدوّ سراعاُ في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصَّن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر اللّه".
قال، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "وأنا آمركم بخمس، اللّه أمرني بهن: الجماعة والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل اللّه. فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم"، قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلّى، فقال: "وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سمّاهم اللّه عز وجل المسلمين المؤمنين عباد اللّه" هذا حديث حسن.
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عَلِم قدرةَ خالقها وحكمته، وعلمه وإتقانه، وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان اللّه إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج! ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟.
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات، والأصوات، والنغمات. وعن أبي حنيفة أن (بعض الزنادقة) سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها - وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل! فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع؟! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمُه واحدٌ تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم (الإبريسم: الحرير.) وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: ههنا حصنٌ حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب والإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكلٍ حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأملْ في نبات الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجين شاخصاتُ * بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات * بأنَّ اللّه ليس له شريك
وقال ابن المعتز:
فيا عجبا كيف يعصى الإل * ه (الإله) أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
وقال آخرون: من تأمّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارات ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، وانظَر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى: {ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحمر مختلفٌ ألوانها وغرابيبُ سود} وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم، لا إله غيره ولا ربَّ سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
@23 - وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
- 24 - فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
$ ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطباً للكافرين: {وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا} يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، فأتوا بسورة من مِثْل ما جاء به؛ إن زعمتم أنه من عند غير اللّه، فعارضوه بمثْل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون اللّه فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عباس {شهداءكم}: أعوانكم، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقد تحدّاهم اللّه تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القَصَص: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} وقال في سورة سبحان: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} وقال في سورة هود: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورة مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وقال في سورة يونس: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}، وكل هذه الآيات مكية. ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية: {وإن كنتم في ريب} أي شك {مما نزلنا على عبدنا} يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم {فأتوا بسورة من مثله} يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة (واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي وأكثر المحققين) ورجح ذلك بوجوه من أحسنها: أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثل} وقوله: {لا يأتون بمثله} وقال بعضهم: من مثل محمد يعني من رجل أُمّيّ مثله، والصحيحُ الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكّة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} و (لن) لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أُخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازما قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام اللّه خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفيه، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فأحكمت ألفاظه، وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكلَّ من لفظه ومعناه فصيح لا يُحاذي ولا يُداني. فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى: {وتمت كلمو ربك صدقا وعدلا} أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، فكلُّه حق وصدق، وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في اشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر (إن أعذبه أكذبه) وتجد في القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاَ، إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتاً أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وأجمالاً، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرَّر حلا وعلا، لا يخلُق عن كثرة الرد، ولا يملُّ منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟ وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، وشوّق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}، وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون}، وقال في الترهيب: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر}، {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير}، وقال في الزجر: {فلا أخذنا بذنبه}، وقال في الوعظ: {أفرأيت إن متّعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يُمتَّعون} إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة.
وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت اللّه تعالى يقول في القرآن: يا أيها الذين آمنوا فأرْعها سمعك فإنها خيرٌ يأمر به أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد اللّه فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهَّدت في الدنيا ورغَّبت في الأُخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط اللّه المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة (رواه الشيخان عن أبي هريرة واللفظ لمسلم) "، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : "وإنما كان الذي أوتيتُه وحياً" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء واللّه أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، وللّه الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} أمَّا الوَقود فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}، وقال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنت لها واردون} والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت، العظيمة السوداء الصلبة النتنة، وهي أشد الأحجار حرّاً إذا حميت أجارنا اللّه منها، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود {اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة}: أما الحجارة فيه حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار، وقال مجاهد: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة. وقيل: المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون اللّه كما قالت تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول وقال ابن كثير: وهذا الذي قاله ليس بقوي) الآية.
وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيراً} وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها، قال: ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها.
وقوله تعالى: {أعدت للكافرين} الأظهر أن الضمير عائد إلى النار ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان. {أعدت} أي أرصدت وحصلت للكافرين باللّه ورسوله، وقد استدل كثير من أئمة السنّة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى {أعدت} أي أرصدت وهيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: "تحاجت الجنة والنار" ومنها: "استأذنت النار ربَّها فقالت ربِّ أكلَ بعضي بعضاً فأذن لها بنفَسَين: نفسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف"، وحديث ابن مسعود: سمعنا وَجْبَة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو مسند عند مسلم، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.
(تنبيه ينبغي الوقوف عليه)
قوله تعالى: {فأتو بسورة من مثله} وقوله في سورة يونس: {بسورةٍ مثل} يعم كل سورة في القرآن، طويلة كانت أو قصيرة، لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً. وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، وقل يا أيها الكافرون، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه اللّه: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم: {والعصر إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:34 | |
| @25 - وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون
$ لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذي صدقوا إمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيْ ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله. فلهذا قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}، فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود. وقوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل}.
قال السدي في تفسيره: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. وقال عكرمة: {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} معناه مثل الذي كان بالأمس، وقال آخرون: {هذا الذي رزقنا من قبل} من ثمار الجنة لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} وعن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة: كُلْ فاللون واحد، والطعم مختلف.
وقال ابن جرير بإسناده في قوله تعالى: {وأتوا به متشابها} يعني في اللون والمرأى وليس يشبه في الطعم. وهذا اختيار ابن جرير، وقال عكرمة {وأتوا به متشابها} قال: يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، وعن ابن عباس "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء"، وفي رواية "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".
وقوله تعالى: {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى. وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم، وعن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال: من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق (رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك قال ابن كثير: والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم)
وقوله تعالى: {وهم فيها خالدون} هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، من الموت والانقطاع فلا آخر له، ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام... واللّه المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم، برٌّ رحيم.
@26 - إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
- 27 - الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون
$ قال السدي: لما ضرب اللّه هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}، وقوله: {أو كصيب من السماء} الآيات الثلاث قال المنافقون: اللّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل اللّه هذه الآية إلى قوله تعالى: {هم الخاسرون} (ذكره السدي في تفسيره عن ابن عبا وابن مسعود) وقال قتادة: لما ذكر اللّه تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها} أي أن الله لايستحي من الحق أن يذكر شيئاً مما قلَّ أو كَثُر، وإن اللّه حين ذكر في كتابه الذباب العنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد اللّه من ذكر هذا؟ فأنزل اللّه: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}.
ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلا ما، أيَ مثلٍ كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيراً و (ما) ههنا للتقليل، وتكون بعوضة منصوبة على البدل، كما تقول: لأضربنَّ ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون (ما) نكرة موصوفة ببعوضة، ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: "إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها" وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء.
وقوله تعالى: {فما فوقها} فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر المحققين، وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء" والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، فكما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}
وقال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} وقال تعالى: {ضرب الله مثلا عبداً مملوكا لا يقدر على شيء} الآية، ثم قال: {ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو من يأمر بالعدل}؟ الآية. وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وفي القرآن أمثال كثيرة.
قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن اللّه قال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}، قال قتادة: {أما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله. وقال أبو العالية: {فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} يعني هذا المثل، {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا} كما قال تعالى: {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلى هو}، وكذلك قال ههنا: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الإ الفاسقين}.
قال ابن عباس: يضل به كثيراً يعني به (المنافقين) ويهدي به كثيراً يعني به (المؤمنين) فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه اللّه، ويهدي به يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم، {وما يضل به إلا الفاسقين}، قال أبو العالية: هم أهل النفاق، وقال مجاهد عن ابن عباس {وما يضل به إلا الفاسقين} قال: يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة {وما يضل به إلا الفاسقين} فسقوا فأضلهم اللّه على فسقهم.
والفاسقُ في اللغة: هو الخارج عن الطاعة. تقول العرب: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة (فويسقة) لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغرابُ والحدأةُ والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الآية الفاسقُ الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى؟ إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} الآيات، إلى أن قال: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم هو وصية اللّه إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضُهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها وأتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه اللّه وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهدُه جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهد لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري. فإنه قال: (فإن قلت) فما المراد بعهد اللّه؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحد كأنه امر وصّاهم به ووثَّقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم} وقال آخرون: العهد الذي ذكر تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا} الآيتين. ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً. حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد
ميثاقه} قال: ما عهد إليهم من القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسهر قتادة، كقوله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم} ورجحه ابن جرير. وقيل: المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل: {أولئك هم الخاسرون} قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: {أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} وقال ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم، مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر. وما نسبه إلى اهل الإسلام فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى: {أولئك هم الخاسرون}: الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته.
@28 - كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون
$ يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده: {كيف تكفرون بالله} أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره، {وكنتم أمواتا فأحياكم} أي وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود. كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون}، وقال ابن عباس {كنتم أمواتا فأحياكم}: أمواتاً في اصلاب آبائكم لم تكونوا شيئاً حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم (هذه رواية ابن جريج عن ابن عباس، والرواية الثانية رواية الضحّاك عنه) قال: وهي مثل قوله تعالى: {أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى {ربنا أمتنا اثنتي وأحييتنا اثنتين} قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم هذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أُخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أُخرى: فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم}.
@29 - هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
$ لما ذكر تعالى دلالةَ من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض، فقال: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات} أي قصد إلى السماء. والاستواء ههنا متضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى (فسواهن) أي فخلق السماء سبعاً. والسماء ههنا اسم جنس، فلهذا قال: {فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم} أي وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: {ألا يعلم من خلق} وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} الآيات.
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاَ ثم خلق السماوات سبعاً، وهذا شان البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره فاما قوله تعالى: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها} فقد قيل: إن (ثمَّ) ههنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل: إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا} قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلماخلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سموات} قال: بعضُهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض. وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} فهذه وهذه دالتان على ان الارض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها} قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الارض خلقت قبل السماء، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً وقد حررنا ذلك في سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها} ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعاً فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضيه ثم السماوية، دحى بعد ذلك الارض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
عدل سابقا من قبل في الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:38 عدل 1 مرات | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:37 | |
| @30 - وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون
$ يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله: {وإذ قال ربك للملائكة} أي واذكر يا محمد إذا قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك، {إني جاعل في الأرض خليفة} أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف الأرض}، وقال: {ويجعلكم خلفاء الأرض}، وقال: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من {صلصال من حمأ مسنون} أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم (قاله القرطبي) .
أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على اللّه، ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم اللّه تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}؟ الآية. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهل وقع الاقتصار علينا؟ قال اللّه تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: {إني أعلم ما لا تعلمون}، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعُبَّاد والزهاد، والأولياء والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمحبون له تبارك وتتعالى، المتبعون رسله صلوات اللّه وسلامه عليهم .
وقيل: معنى قوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب {ونحن نسبِح بحمدك ونقدس لك}، فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون} أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل: بل تضمن قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك} طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال اللّه تعالى ذلك: {إني أعلم ما لا تعلمون} من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة واللّه أعلم.
(ذكر أقوال المفسرين)
قال السدي في تفسيره: إن اللّه تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويقتل بعضهم بعضاً: قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها اللّه إنما هي خلافة قرن منهم قرناً قال: والخليفة الفعلية من قوله: خلف فلان فلاناً في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}. ومن ذلك قبل للسلطان الأعظم خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً.
قال ابن جرير عن ابن عباس: إن أول من سكن الأرض الجن، فافسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضاً قال: فبعث اللّه إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: {إني جاعل في الأرض خليفة}. وقال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل اللّه في قلوبهم (الضمير في (قلوبهم) يعود على الملائكة لا على الجن فتنبه) أن ذلك سيكون، فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال قتادة في قوله {أتجعل فيها من يفسد فيها}: كان اللّه أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}؟.
قال ابن جرير: وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} لأن اللّه أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم {إني أعلم ما لا تعلمون}، يعني أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعاً، قال، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا - مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}، قال قتادة: التسبيح والتقديس الصلاة، وقال السدي عن ابن عباس {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}: نصلي لك. وقال مجاهد {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}، قال نعظمك ونكبرك. وقال ابن جرير: التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم: سبوح قدوس، يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له، وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة فمعنى قوله الملائكة إذا {ونحن نسبح بحمدك}: ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، {ونقدس لك} ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
عن أبي ذر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى اللّه لملائكته: سبحان اللّه وبحمده" (رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري) وروي أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاً في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" (رواه البهيقي عن عبد الرحمن بن قرط) {قال إني أعلم ما لا تعلمون} قال قتادة: فكان في علم اللّه أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة.
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليقة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنّة في أبي بكر. أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصدّيق بعمر بن الخطاب، أو بتركه مشورة في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، واللّه أعلم.
ويجب أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، عدلاً، مجتهداً، بصيراً، سليم الأعضاء، خبيراً بالحروب والأراء، قرشياً على الصحيح؛ ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة والروافض. ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا كفراً بواحاً (كفراً بواحاً: قال ابن الأثير: أي جهارً من باح بالشيء يبوح به إذا أعلنه. النهاية في غريب الحديث) عندكم من اللّه فيه برهان"، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: "من جاءكم وأمْرُكم جَميعٌ يريد أن يفرِّق بينكم فاقتلوه كائنا من كان" وهذا قول الجمهور.
@31 - وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين
- 32 - قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
- 33 - قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
$ هذا مقام ذَكَر اللّه تعالى فيه شرفُ آدم على الملائكة، بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر اللّه هذا المقام عقيب هذا ليبيّن لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال السدي عن ابن عباس: {وعلم آدم الأسماء كلها} علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً، والدواب فقيل هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس (هذه رواية السدي عن بن عباس، والثانية رواية الضحاك عنه) وقال الضحاك عن ابن عباس {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودواب، وسماء، وأرض وسهل، وبحر، وخيل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وقال مجاهد {وعلم آدم الأسماء كلها}: علمه اسم كل دابة، وكل طير، وكل شيء، وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها، ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية عن أنَس عن النبي صلى اللَه عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا (أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة) " الحديث. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال: {ثم عرضهم على الملائكة} يعني المسميات {فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، قال مجاهد: ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.
وقال ابن جرير عن الحسن وقتادة قال: علَّمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى {إن كنتم صادقين} إني لم أخلق خلقا إلى كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، وقال السدي {إن كنتم صادقين} أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} هذا تقديس وتنزيه من الملائكة للّه تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علّمهم اللّه تعالى ولهذا قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلى ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} أي العليمُ بكل شيء الحكيمُ في خلقك وأمرك، وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام. عن ابن عباس {سبحان اللّه} قال: تنزيه اللّه نفسه عن السوء.
قوله تعالى {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}: لما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه اللّه تعالى من أسماء الأشياء، قال اللّه تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال تعالى: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون}، وعن ابن عباس {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والإغترار. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} فكان الذي أبدوا هو قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن اللّه فضّل عليهم آدم في العلم والكرم وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس، وهو أن معنى قوله تعالى {وأعلم ما تبدون}: وأعلم مع علمي غيب السماوات والأرض ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى علي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمونه ما كان عليه منطوياً إبليس من الخلاف على اللّه في أوامره والتكبر عن طاعته، قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: {إن الذي ينادونك من وراء الحجرات} ذُكِر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم، قال وكذلك قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}.
@34 - وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
$ وهذه كرامة عظيمة من اللّه تعالى لآدم امتَنَّ بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام: "رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه اللّه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته؟" قال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء اللّه.
والغرض أن اللّه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر.
قال طاووس عن ابن عباس: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه (عزرايل) وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيٍّ يسمون جناً وقال سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير عن الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، وهذا إسناد صحيح عن الحسن. وقال شهر ابن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير، وعن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أُمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى: {إلا إبليس كان من الجن} وقال أبو جعفر: {وكان من الكافرين} يعني من العاصين. قال قتادة في قوله تعالى {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}: فكانت الطاعة للّه والسجدة لآدم، أكرم اللّه آدم أن اسجد له ملائكته، وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا} وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا.
قال معاذ: "قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول اللّه أحق أن يسجد لك، فقال: "لا، لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي. وقال بعضهم: بل كانت السجدة للّه وآدم قبلة فيها، والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم كانت إكراما وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة للّه عزّ وجلّ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قوّاه الرازي في تفسيره وضعَّف ما عداه من القولين الآخرين، وهما: كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الإنحناء ووضع الجبهة على الأرض، وهو ضعيف كما قال.
وقال قتادة في قوله تعالى {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}: حسد
عدوّ اللّه إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه اللّه من الكرامة وقال: أنا ناري وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدوّ اللّه أن يسجد لآدم عليه السلام. قلت: وقد ثبت في الصحيح:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" وقد كان في قلب إبليس من الكبر، والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين {وكان من الكافرين}: أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه، كما قال: {فكان من المغرقين}، وقال: {فتكونا من الظالمين}، وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها * قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
أي قد صارت، وقال ابن فورك تقديره: وقد كان في علم اللّه من الكافرين، ورجَّحه القرطبي، وذكر ههنا مسألة فقال، قال علماؤنا: من أظهر اللّه على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة.
قلت: وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ، حين خبأ له رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم : {فارتقب يوم تأت السماء بدخان مبين}، وبما كان يصدر عنه، أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد اللّه بن عمر، وبما تثبتت به الأحاديث الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة، من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وكان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنّة. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:40 | |
| @35 - وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين
- 36 - فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
$ يبين اللّه تعالى إخباراً عما أكرم به آدم، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء (رغداً) أي هنيئاً واسعاً، طيباً. وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم هي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى، ويساق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن ابن عباس وعن ناس من الصحابة "أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيداً ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها اللّه من ضلعه، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولمّ حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي".
وأما قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} فهو اختبار من اللّه تعالى وامتحان لآدم. وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي؟ فقال السدي عن ابن عباس: الشجرة التي نهى عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال ابن جرير بسنده: حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم، والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة. وقال سفيان الثوري عن أبي مالك {ولا تقربا هذه الشجرة} :النخلة، وقال ابن جرير عن مجاهد {ولا تقربا هذه الشجرة} : التينة.
قال الإمام العلّامة أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه: والصواب في ذلك أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن اللّه لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنّة الصحيحة وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم ينفع العالم به علمه، وإن جَهِلَه جاهل لم يضره جهله به واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} يصح أن يكون الضمير في قوله (عنها) عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما، ويصح أين يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فأزلهما الشيطان عنها} أي بسببها، كما قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} أي يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى: {فأخرجهما مما كانا فيه} أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي قرار وأرزاق وآجال (إلى حين) أي إلى وقت مؤقت ومقدار معيّن ثم تقوم القيامة، وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن منبه وغيرهم، ههنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الّله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا واللّه الموفق.
فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك؟ وأجاب الجمهور بأجوبة، وأحدها أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع ولهذا قال بعضهم - كما في التوراة - إنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء. ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي ههنا أحاديث في الحيات وقتلهن، وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد.
@37 - فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم
$ قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال اللّه: "إذن أدخلك الجنة" فهي الكلمات، ومن الكلمات أيضاً {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. وعن مجاهد أنه كان يقول في قوله اللّه تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} الكلمات "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين" " اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين"، " اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم"، وقوله تعالى: {إنه هو التواب الرحيم} أي أنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده}، وقوله: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الآية، وقوله: {ومن تاب وعمل صالحاً} وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب، ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم.
@38 - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
- 39 - والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
$ يخبر تعالى بما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية: أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية: الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان. وقال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صلى اللَه عليه وسلم، وقال الحسن: الهدى القرآن، هذان القولنان صحيحان. وقول أبي العالية أعم {فمن تبع هداي} أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {فلا خوف عليهم} أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} كما قال ههنا {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص. قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم : "أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة (رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين) ".
وذكرُ هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول، واللّه أعلم. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:40 | |
| @40 - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون
- 41 - وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون
$ يأمر تعالى بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من اللّه أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم (إسرائيل) وهو نبي اللّه يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع للّه، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم افعل كذا؛ يا ابن الشجاع بارز الأبطال؛ يا ابن العالِم اطلب العلم، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح إن كان عبداً شكوراً} فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبيَّ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال:" هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟"، قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى اللَه عليه وسلم : "اللهم اشهد" وعن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد اللّه.
وقوله تعالى: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} قال مجاهد}: نعمة اللّه التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجّاهم من عبودية آل فرعون. وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: {يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} يعني في زمانهم، وقال محمد ابن اسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجّاهم من فرعون وقومه، {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}، قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى اللَه عليه وسلم إذا جاءكم، أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً . وقال اللّه إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسلي وعزرتموهم، وأقرضتم اللّه قرضاً حسناً، لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} الآية. وقال آخرون: هو الذي أخذ اللّه عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى اللَه عليه وسلم، فمن اتبعه غفر اللّه له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى اللَه عليه وسلم .
وقال أبو العالية {وأوفوا بعهدي}، قال: عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه. وقال الضحّاك {أوف بعهدكم}: أرضَ عنكم و أُدخلكم الجنة، وقوله تعالى: {وإياي فارهبون} أي فاخشون، وقال ابن عباس: في قوله تعالى: {وإياي فارهبون} أي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى اللَه عليه وسلم والإتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره وتصديق أخباره، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال: {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى اللَه عليه وسلم النبي الأُمي العربي بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من اللّه تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العالية: {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم}، يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول: لأنهم يجدون محمداً صلى اللَه عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
وقوله: {ولا تكونوا أول كافر به} قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى اللَه عليه وسلم بعد سماعكم بمبعثه، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله (به) عائد على القرآن الذي تقدّم ذكره في قوله: {بما أنزلت}، وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى اللَه عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله: {أول كافر به} فيعني به أول من كفر به من بين إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أول من كفر به من جنسهم.
وقوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا} يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسول بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، سئل الحسن البصري عن قوله تعالى: {ثمنا قليلا} قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وعن سعيد بن جبير: إن آياته: كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل: الدنيا وشهواتها؛ وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس، لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم : "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه اللّه لا يتعلمه إلا ليصيبه به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" (أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة) " فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند (مالك والشافعي وأحمد) وجمهور العلماء كما في قصة اللديغ: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه". (رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري) " وقوله في قصة المخطوبة: "زوجتكها بما معك من القرآن".
وقوله: {وإياي فاتقون} عن طلق بن حبيب قال: التقوى أن تعمل بطاعة اللّه، رجاء رحمة اللّه، على نور من اللّه، وأنت تترك معصية اللّه، على نور من اللّه، تخاف عقاب اللّه، ومعنى قوله: {وإياي فاتقون} أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه
@42 - ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
- 43 - وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين
$ يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به، وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به. ولهذا قال ابن عباس {ولا تلبسوا الحق بالباطل}: لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب، وقال أبو العالية: ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد اللّه من أُمة محمد صلى اللَه عليه وسلم، وقال قتادة {ولا تلبسوا الحق بالباطل}: ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين اللّه الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من اللّه. عن ابن عباس: {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم وقال مجاهد والسدي: {وتكتموا الحق} يعني محمداً صلى اللَه عليه وسلم . (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً ويحتمل أن يكون منصوباً أي لا تجمعوا بين هذا وهذا، كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود {وتكتموا الحق} أي في حال كتمانكم الحق، {وأنتم تعلمون} حال أيضاً، ومعناه وأنتم تعلمون الحق ويجوز أن يكون المعنى وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس، من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار، إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيانُ: الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} قال مقاتل: أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى اللَه عليه وسلم {وآتوا الزكاة} أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى اللَه عليه وسلم {واركعوا مع الراكعين} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى اللَه عليه وسلم يقول: كونوا معهم ومنهم.
@44 - أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
$ معناه: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر - وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصَّر في أوامر اللّه؟ {أفلا تعقلون} ما أنتم صانعون بأنفسكم، فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم؟ وهذا كما قال قتادة في قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} قال: كان بنوا إسرائيل يأمرون الناس بطاعة اللّه، وبتقواه ويخالفون، فعيَّرهم اللّه عزّ وجلّ. وقال ابن عباس: {وتنسون أنفسكم} أي تتركون أنفسكم {وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيه من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي. وقال الضحّاك عن ابن عباس في هذه الآية: يقول أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى اللَه عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم.
قال أبو الدرداء رضي اللّه عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات اللّه ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتاً، وقال عبد الرحمن بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال اللّه تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}؟ والغرضُ أن اللّه تعالى ذمَّهم على هذا الصنيع، ونبَّههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه . إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.
فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر.
(قلت) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها مخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم : " مَثَل العالم الذي يعلِّمُ الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه) " وقال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم : "مررت ليلة أسرى بي على قوم تُقْرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا، ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" (رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك)، وقال صلى اللَه عليه وسلم : "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه)، وقد ورد في بعض الآثار أنه يغفر للجاهل سبعين مرة، حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}، وروي عن النبي صلى اللَه عليه وسلم أنه قال: "إن أناساً من أهل الجنة يطّلعون على أناس من أهل النار، فيقولون بم دخلتم النار؟ فواللّه ما دخلنا الجنة إلا بما تعلَّمنا منكم، فيقولون: إنّا كنا نقول ولا نفعل" (رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة)
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عباس: إني أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغْتَ ذلك؟ قال: أرجو، قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب اللّه فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثاني، قال: قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عن الله أن تقولوا ما لا تفعلون} أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث، قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وما أُريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح} أحمكت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك (رواه الضحّاك عن ابن عباس) وقال ابراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}، وقوله إخباراً عن شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}.
@45 - واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
- 46 - الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون
$ يأمر تعالى عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة. فأما الصبر فقيل: إنه الصيام.
قال القرطبي: ولهذه يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث: "الصوم نصف الصبر" وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي ولهذا قرنه بأداء العبادات، وأعلاها فعل الصلاة. قال عمر بن الخطّاب: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم اللّه. وقال أبو العالية: {واستعينوا بالصبر والصلاة} على مرضاة اللّه، واعلموا أنها من طاعة اللّه. وأما قوله: {والصلاة} فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} الآية.
وكان رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (رواه أحمد وأبو داود) وعن علي رضي اللّه عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم يصلّي ويدعو حتى أصبح. وروي أن ابن عباس نعي إليه أخوة قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}، والضمير في قوله: {وإنها لكبيرة} عائد إلى الصلاة، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون: {ولا يلقاها إلا الصابرون}، وقال تعالى: {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} أي وما يلقَّى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى: {وإنها لكبيرة} أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين، قال ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل اللّه، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: الخائفين، وقال مقاتل: المتواضعين، وقال الضحّاك {وإنها لكبيرة} قال: إنها لثقيلة إا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده. وقال ابن جرير معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة اللّه وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا اللّه، العظيمة إقامتها {إلا على الخاشعين} أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، واللّه أعلم.
وقوله تعالى {الذي يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي أن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء، سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات. فأما قوله {يظنون أنهم ملاقوا ربهم} فالمراد يعتقدون، والعرب قد تسمي اليقين ظناً والشك ظناً، نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفه. ومنه قول اللّه تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها}، قال مجاهد: كلُّ ظنٍ في القرآن يقين. وعن أبي العالية في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} قال: الظن ههنا يقين، وعن ابن جريج: علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} يقول علمت. (قلت) وفي الصحيح: إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: "ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟" فيقول بلى، فيقول اللّه تعالى: "أظننت أنك ملاقيَّ"، فيقول: لا، فيقول اللّه اليوم أنساك كما نسيتني وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى: {نسو اللّه فنسيهم}، إن شاء اللّه تعالى. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:41 | |
| @47 - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
$ يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وأنزل الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين}، وقال تعالى: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} قال أبو العالية في قوله تعالى {وإني فضلتكم على العالمين} على عالم مَنْ كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالماً، ويجب الحمل على هذا، لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وقال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم : "أنتم توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه (رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً) "، والأحاديث في هذا كثيرة، وقيل: المراد تفضيلٌ بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً، حكاه الرازي وفيه نظر. وقيل: فضّلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم وفيه نظر، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم، ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات اللّه وسلامه عليه.
@48 - واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون
$ لما ذكَرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال: {واتقوا يوماً} يعني يوم القيامة {لا تجزى نفس عن نفس شيئاً} أي لا يغني أحد عن أحد، كما قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، وقال: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}، وقال: {واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودُ هو جاز عن والده شيئاً} فهذه أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً. وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} يعني من الكافرين كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}، وكما قال عن أهل النار: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}،
وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به}، وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم}، وقال تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها}، وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} الآية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا اللّه يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى: {لا بيعٌ فيه ولا خلال} قال ابن عباس {ولا يؤخذ منها عدل} قال: بدلٌ والبدل الفدية.
وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب اللّه، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال: {فما له من قوة ولا ناصر} أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد كما قال تعالى: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}، وقال: {ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون}، وقال: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون اللّه قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم} الآية. وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {ما لكم لا تناصرون} ما لكم اليوم لا تمانعون منا، هيهات ليس ذلك لكم اليوم، قال ابن جرير: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية . بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون؟ بل هم اليوم مستسلمون}.
@49 - وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم
- 50 - وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون
$ يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم، إذا نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وذلك أن فرعون لعنه اللّه كان قد رأى رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، فعند ذلك أمر فرعون لعنه اللّه بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها، وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم}، وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القَصَص، إن شاء اللّه تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى (يسومونكم) يولونكم كما يقال: سامه خطه خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو ابن كلثوم:
إذ ما الملك سام الناس خسفاً * أبينا أن نُقرَّ الخسف فينا
وقيل معناه: يديمون عذابكم، وإنما قال ههنا: {يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} ثم فسره بهذا لقوله ههنا {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}. وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وذكرهم بأيام الله} أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم}، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل؟ (وفرعون) عَلَمٌ على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم، كما أن (قيصر) عَلَمٌ على كل من ملك الروم مع الشام كافراً، و (كسرى) لمن ملك الفرس. ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام (الوليد ابن مصعب بن الريان) فكان من سلالة عمليق، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر. وأياً ما كان فعليه لعنة اللّه وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء} قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون، بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وقال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات}.
وقيل المراد بقوله: {وفي ذلكم بلاء} إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور والبلاء ههنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان.
وقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر، {فأنجيناكم} أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك اشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، لما روي عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى اللَه عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومون؟"، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى اللّه عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم " أنا أحق بموسى منكم" فصامه رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم وأمر بصومه (أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم)
@51 - وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون
- 52 - ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون
- 53 - وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون
$ يقول تعالى: {واذكروا نعمتي عليكم} في عفوي عنكم، لمّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.
وقوله تعالى: {وإذْ آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة، {والفرقان} وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة {لعلكم تهتدون}، وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى}.
@54 - وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم
$ هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع {فتوبوا إلى بارئكم} أي إلى خالقكم. وفي قوله ههنا {إلى بارئكم} تنبيه على عظم جرمهم، أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره، قال ابن جرير بسنده عن ابن عباس: أمر قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كلُّ من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقى كانت له توبة. وقال السدي: في قوله {فاقتلوا أنفسكم} قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل منهم سبعون ألفاً وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية الباقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه فذلك قوله: {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم، قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر اللّه، فأمر موسى من لم يكن عَبَد العجل أن يقتل من عبده، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب اللّه عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. وقال عبد الرحمن بن زيد: لمّا رجع موسى إلى قومه، وكانوا سبعين رجالً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى ما من توبة؟ قال: بلى {اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم} الآية، فاخترطوا السيوف والخناجر والسكاكين، قال: وبعث عليهم ضبابة فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، ويلقي الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري. قال: ويتنادون فيها رحم اللّه عبداً صبر نفسه حتى يبلغ اللّه رضاه، قال فقتلاهم شهداء وتيب على أحيائهم ثم قرأ: {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:42 | |
| @55 - وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون
- 56 - ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
$ يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذا سألتم رؤيتي جهرةً عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم. قال ابن عباس: (جهرةً) علانية، وقال الربيع بن أنَس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال فسمعوا كلاماً فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة}، قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول ماتوا. قال السدي في قوله {فأخذتكم الصاعقة} الصاعقة: نار فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو اللّه ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فأوحى اللّه إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن اللّه أحياهم فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} وقال الربيع ابن أنَس: كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وقال ابن جرير: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرَّق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى اللّه وتوبوا إلى اللّه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم. صوموا وتطَّهروا وطهِّروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقاتِ وقَّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء اللّه: يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل.
فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه اللّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}، فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة، فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي إن هذا لهم هلاك، واختر منهم سبعين رجلاً الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجُل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إنا هدنا إليك} فلم يزل موسى يناشد ربه عزّ وجلّ ويطلب إليه حتى ردَّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال السُّدي: لمّا تابت بنوا إسرائيل من عبادة العجل وتاب اللّه عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمره اللّه به، أمر اللّه موسى أن يأتيه في أُناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجُلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية. والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسِّرين سواه، وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا اللّه عزّ وجلّ، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمُنِع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون!؟
@57 - وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
$ لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكِّرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم فقال: {وظلّلنا عليكم الغمام} جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يغمّ السماء أي يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حرّ الشمس. وقال الحسن وقتادة {وظلّلنا عليكم الغمام}: كان هذا في البرّية ظلل عليهم الغمام من الشمس وعن مجاهد {وظلّلنا عليكم الغمام} قال: ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي اللّه فيه في قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، قال ابن عباس: وكان معهم في التيه.
{وأنزلنا عليكم المَنَّ} اختلفت عبارات المفسِّرين في المن ما هو؟ فقال ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا، وقال السُّدي: قالوا: يا موسى كيف لنا بما ههنا، أي الطعام؟ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرو الزنجبيل. وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلّهم سقوط الثلج، أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك. وقال عبد الرحمن بن اسلم: إنه العسل.
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن. فمنهم من فسَّره بالطعام، ومنهم من فسَّره بالشراب، والظاهر - واللّه أعلم - أنه كل ما امتنَّ اللّه به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد.
فلمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مُزج مع الماء صار شراباُ طيّباً، وإن ركِّب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول النبي صلى اللَه عليه وسلم : "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين (رواه البخاري وأخرجه الجماعة إلا أبا داود) ".وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين. (تفرد بإخراجه الترمذي وقال حديث حسن غريب)
وأما السلوى فقال ابن عباس: السلوى طائر يشبه السماني كانوا ياكلون منه. وقال قتادة: السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه وقال السُّدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما ههنا، أين الطعام؟ فأنزل اللّه عليهم المن. فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فاين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى: {وظلّلنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى} قال ابن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تَخْرق ولا تَدْرن (لا تدرن : أي لا يصيبها وسخا ولا قذارة والدرن الوسخ) قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً.
وقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال: {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم. هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، من ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى اللَه عليه وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء، في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحرّ الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى اللَه عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدْر مبرك الشاة فدعا اللّه فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل اللّه تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر.
@58 - وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين
- 59 - فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون
$ يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم اللّه في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي (بيت المقدس) كما نص على ذلك غير واحد، وقد قال اللّه تعالى حاكياً عن موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب اللّه لكم ولا ترتدوا} الآيات. وقال آخرون: هي (أريحا) وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - (سجداً) أي شكراً للّه تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال. قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: {وادخلوا الباب سجداً} أي ركعاً، وقال الحسن البصري: أُمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال السُّدي: عن عبد اللّه بن مسعود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أُمروا.
وقوله تعالى: {وقولو حطة} قال ابن عباس: مغفرة استغفروا، وقال الضحّاك عن ابن عباس {وقولوا حطة} قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا {نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} وقال: هذا جواب الأمر، أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات، وضاعفنا لكم الحسنات. وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا للّه تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح (فتح مكة) داخلاً إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً للّه على ذلك.
وقوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} روي البخاري عن النبي صلى اللَه عليه وسلم : "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا حبة في شعرة (رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً) " وقال الثوري عن ابن عباس في قوله تعالى: {ادخلوا الباب سجدا} قال: ركعا من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}.
وحاصل ما ذكره المفسِّرون وما دلّ عليه السياق أنهم بدّلوا أمر اللّه لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأُمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رؤوسهم، وأُمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزأوا فقالوا حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل اللّه بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته، ولهذا قال: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}.
وقال الضحّاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب اللّه من الرجز يعني به العذاب، وقال أبو العالية: الرجُز الغضبُ، وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون، لحديث: "الطاعون رجز عذاب عُذّب به من كان قبلكم (الحديث رواه النسائي وأصله في الصحيحين) ". | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:44 | |
| @60 - وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في أجابتي لنبيكم موسى عليه السلام، حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عينُ قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم، بلا سعي منكم ولا جَدّ، واعبدوا الذي سخَّر لكم ذلك، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتُسْلَبوها. وقد بسطه المفسِّرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي اللّه عنه: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها، وقال قتادة: كان حجراً طورياً - من الطور - يحملونه معهم حتى نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين اغتسل فقال له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون (اللام) للجنس لا للعهد، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس وقال الضحاك قال ابن عباس لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً، وقال الثوري عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عينا يشربون منها.
@61 - وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم
$ يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم، قال الحسن البصري: فبطروا وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج مما تنبت الأرض من بقلها وقثاءهم وفومها وعدسها وبصلها} وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، وأما الفوم فقال ابن عباس: الثوم، وقال آخرون: الفوم: الحنطةُ وهو البُرَّ الذي يعمل منه الخبز، روي أن ابن عباس سئل عن قول اللّه {وفومها} ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً * ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير، عن ابن عباس في قول اللّه تعالى {وفومها} قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وقال الجوهري: الفوم الحنطة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز، قال: وقال بعضهم: هو الحمص لغة شامية، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم، وقوله: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}؟ فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع. وقوله تعالى: {اهبطوا مصراً} هكذا هو منون مصروف، وقال ابن عباس: مصراً من الأمصار. والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل اللّه فيه. ولهذا قال: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه، واللّه أعلم.
@تتمة الآية 61: وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
يقول تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي لا يزالون مستذلين من وَجَدهم استذلهم وأهانهم وضربَ عليهم الصغاَر، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الضحّاك: {وضربت عليهم الذلة} قال: الذل، وقال الحسن: أذلهم اللّه فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجيبهم الجزية، وقال أبو العالية والسُّدى: المسكنةُ الفاقةُ، وقوله تعالى: {وباؤا بغضب من اللّه} استحقوا الغضب من اللّه، وقال ابن جرير: يعني بقوله {وباؤوا بغضب من اللّه}: انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به، ومنه قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام رجعوا منصرفين متحملين غضب اللّه قد صار عليهم من اللّه غضب ووجب عليهم من اللّه سخط.
وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق} يقول اللّه تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات اللّه وإهانتهم حَمَلة الشرع وهم (الأنبياء) وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات اللّه وقتلوا أنبياء اللّه بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال: "الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناسِ" (هذا جزء من حديث شريف وأوله "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر.."الحديث) يعني رد الحق وانتقاص الناس والإزدراء بهم والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات اللّه وقتلهم أنبياءه،أحل اللّه بهم بأسه الذي لا يُرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاءً وفاقاً. عن عبد اللّه بن مسعود قال: "كانت بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار" (رواه أبو داود الطيالسي) وعن عبد اللّه بن مسعود: أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال: "أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتله نبي أو قَتَل نبيا، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين" (رواه الإمام أحمد في مسنده) وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداءُ المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، واللّه أعلم.
@62 - إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
$ لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدّى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبّه تعالى على أن من أحسن من الأُمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كلُّ من اتبع الرسول النبي الأُمّي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {ألا إن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} عن مجاهد قال: قال سلمان رضي اللّه عنه: سألت النبي صلى اللَه عليه وسلم عن أهل دين كنتُ معهم فذكرت من صَلاتهم وعبادتهم، فنزلت: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن باللّه واليوم الآخر} إلى آخر الآية. وقال السُّدي: نزلت في اصحاب (سلمان الفارسي) بينا هو يحدِّث النبي صلى اللَه عليه وسلم إذا ذكر أصحابه فأخبروه خبرهم فقال: كانوا يصلون، ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له النبي صلى اللَه عليه وسلم : يا سلمان هم من أهل النار" فاشتد ذلك على سلمان فأنزل اللّه هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنّة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسُنَّة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى اللَه عليه وسلم فمن لم يتبع محمداً صلى اللَه عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً.
(قلت) وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس {إن الذين آمنوا والذين هادوا} الآية قال: فأنزل اللّه بعد ذلك: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقه ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى اللَه عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام: {إنا هدنا إليك} أي تبنا فكأنَّهم سموا بذلك في الاصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى (يهودا) أكبر أولاد يعقوب، فلما بعث عيسى صلى اللَه عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى عليه السلام: {من أنصاري إلى الله؟ قال الحوارين نحن أنصار الله} وقيل إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنّهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة، قاله قتادة وروي عن ابن عباس أيضاً، واللّه أعلم.
فلما بعث اللّه محمداً صلى اللَه عليه وسلم خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسمِّيت أُمّة محمدا صلى اللَه عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية.
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم فقال مجاهد: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، وقال أبو العالية والضحّاك: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة، وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف اللّه وحده، وليست له شريعة يعمل بها، ولم يُحْدث كفراً، وقال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: "لا إله إلا الله" وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبيٌّ إلا قول: لا إله إلا اللّه، قال: ولم يمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى اللَه عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون يشبِّهونهم بهم يعني في قول: "لا إله إلا اللّه" وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، قال القرطبي: والذي تحصَّل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة، ولهذا أفتى أبو سعيد الأصطخري بكفرهم للقادر باللّه حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن اللّه جعلها قبلة للعباد والدعاء أو بمعنى أن اللّه فوّض تدبير أمر هذا العالم إليها. وأظهرُ الأقوال - واللّه أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه، ولهذا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الارض إذ ذاك، وقال بعض العلماء: الصابئون الذي لم تبلغهم دعوة نبي، واللّه أعلم.
@63 - وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
- 64 - ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
$ يقول تعالى مذكِّراً بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق، بالإيمان وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤوسهم، ليقروا بما عوهدوا عليه يأخذوه بقوة وحزم وامتثال كما قال تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} فالطور هو الجبل كما فسَّره به في الأعراف، وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر اللّه الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم اللّه فكشفه عنهم فقالوا: واللّه ما سجدة أحب إلى اللّه من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك، وذلك قول اللّه تعالى: {ورفعنا فوقكم الطُّور}، {خذوا ما آتيناكم بقوة}، يعني التوراة، قال أبو العالية: (بقوة) أي بطاعة، وقال مجاهد: (بقوة) بعملٍ بما فيه، وقال قتادة: القوة: الجد وإلا قذفته عليكم، قال: فأقروا أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة، ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم، يعني الجبل، {واذكروا ما فيه} يقول: اقرأوا ما في التوراة واعملوا به. وقوله تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل اللّه} يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم، توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لكنتم من الخاسرين} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:50 | |
| @65 - ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
- 66 - فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
$ يقول تعالى: {ولقد علمتم} يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية، التي عصت أمر اللّه وخالفوا عهده وميثاقه، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذا كان مشروعاً لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم اللّه إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} القصة بكمالها وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيلة، وقوله تعالى: {فقلنا لهم كونوا ققردة خاسئين} قال مجاهد: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مَثَلٌ ضربه اللّه {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} وهذا سند جيّد عن مجاهد، وقولٌ غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام، وفي غيره قال اللّه تعالى: {قل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} الآية، وقال ابن عباس {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين}: فجعل اللّه منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير. وقال شيبان عن قتادة {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعدما كانوا رجالاً ونساء، وقال عطاء الخُراساني: نودوا يا أهل القرية {كونوا قردة خاسئين} فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فُلان، يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم أي بلى، وقال الضحّاك عن ابن عباس: فمسخهم اللّه قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل، وقد خلق اللّه القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها اللّه في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة وكذلك يفعل بمن يشاء، ويحوله كما يشاء {خاسئين} يعني أذلة صاغرين.
وقال السُّدي في قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قال: هم أهل أيلة؛ وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحِيتان إذا كان يوم السبت، وقد حرّم اللّه على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً، لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لَزِمْنَ سُفْلَ البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون السبت فذلك قوله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} فاشتهى بعضهم السمك فجعل الرجُل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فاقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجُل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحلّ لكم، فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا، فقال بعض الذين نهوهم لبعض: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} يقول: لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم، فقال بعضهم: {معذرة إلى ربكم ولعلهم يتَّقون}، فلما أبَوْ قال المسلمون واللّه لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار ففتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكُفّار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفّار بابهم، فلما أبطأوا عليهم تسوَّر المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض، فذلك قول اللّه تعالى: {فلما عتوا عمّا نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاشئين}، وذلك حين يقول: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} الآية فهم القردة، (قلت) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الآئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه اللّه من أن مسخهم إنما كان (معنوياً) لا (صورياً)، بل الصحيح أنه معنوي صوري واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {فجعلناها نكالاً} قال بعضهم: الضمير في (فجعلناها) عائد إلى القردة، وقيل على (الحيتان)، وقيل على (العقوبة)، وقيل على القرية حكاها ابن جرير. والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل اللّه هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم (نكالاً) أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال اللّه عن فرعون: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} وقوله تعالى: {لما بين يديها وما خلفها} أي من القرى، قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرةً لما حولها من القرى كما قال تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون}، فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان، كما قال عكرمة عن ابن عباس: (لما بين يديها) من القرى (وما خلفها) من القرى، وقال أبو العالية: (وما خلفها) لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكأن هؤلاء يقولون المراد {لما بين يديها وما خلفها} في الزمان، وهذا مستقيم بالنسبة إلى ما يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس، فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ فتعيَّن أن المراد في المكان وهو ما حولها من القرى كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير واللّه أعلم.
وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية: {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد: {لما بين يديها} من ذنوب القوم {وما خلفها} لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث: أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن. (قلت) وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} الآية، وقال تعالى: {ولا يزال الذي كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} الآية، وقال تعالى: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: {وموعظة للمتقين} الذين من بعدهم إلى يوم القيامة، قال الحسن: فيتقون نقمة اللّه ويحذرونها، وقال السُّدي: {وموعظة للمتقين} أمّة محمد صلى اللَه عليه وسلم (قلت) المراد بالموعظة ههنا الزاجر، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم اللّه وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم اللّه بأدنى الحيل" (أخرجه الإمام أوب عبد اللّه بن بطة وفي سنده (أحمد بن محمد بن مسلم) وثقه الحافظ البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح) وهذا إسناد جيّد واللّه أعلم.
@67 - وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
$ يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء اللّه المقتول ونصه على من قتله منهم.
(ذكر بسط القصة)
عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهى: علام يقتل بعضكم بعضاً وهذا رسول اللّه فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ [فقال؟؟] هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيدة السلماني)
وقوله تعالى: {إنها بقرة لا فارض} يعني لا هرمه، {ولا بكر} يعني ولا صغيرة، {عوان بين ذلك} أي نَصَفٌ بين البكر والهرمة. {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} أي صاف لونها، (تسر الناظرين) أي تعجب الناظرين، {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول} أي لم يذللها العمل، {تثير الأرض ولا تسقي الحرث} يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث {مسلَّمة} يعني مسلَّمة من العيوب {لا شية فيها} يقول لا بياض فيها {قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون} ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد اللّه عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} لما هُدوا إليها أبداً.
وقال السُّدي {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال واللّه لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته ولآكلن ديّته، فأتاه الفتى - وقد قدم تجار ف؟؟ بعض أسباط بني إسرائيل - فقال: يا عم انطلِق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلّي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلاً، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمّه كأنه لا يدري أين هو فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم، وقال: قتلتم عمي فأدّوا إليَّ ديَته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي: واعمّاه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية. فقالوا له: يا رسول اللّه ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية، فواللّه إن ديته علينا لهيِّنة، ولكن نستحيي أن نعيَّر به فذلك حين يقول تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون}، فقال لهم موسى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا؟ {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}
قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنْ شدَّدوا وتعنَّتوا على موسى فشدَّد الله عليهم. والفارض الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلى ولداً واحداً، والعَوَان النْصَفُ التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها {فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} قال نقي لونها {تسرّ الناظرين} قال تعجب الناظرين {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير في الارض ولا تسقي الحرث مسلَّمة لا شية فيها} من بياض ولا سواد ولا حمرة {قالوا الآن جئت بالحق} فطلبوها - من صاحبها - وأعطوا وزنها ذهباً فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها فذبحوها، قال: اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه من قتلك فقال لهم ابن أخي قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته، فأخذوا الغلام فقتلوه (قال ابن كثير: وهذه الروايات عن (عبيدة) و (السدي) مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذَّب)
@68 - قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون
- 69 - قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين
- 70 - قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون
- 71 - قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون
$ أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق اللّه عليهم ولو أنهم ذبحوا أيَّ بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم فقالوا {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أي ما هذه البقرة؟ وأي شي صفتها؟ قال ابن جرير عن ابن عباس: (لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم) قال: {إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر} أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل. وقال الضحّاك عن ابن عباس: {عوان بين ذلك} يقول نَصَفٌ بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون. وقال سعيد بن جبير: {فاقع لونها} صافية اللون. وقال العوفي عن ابن عباس: {فاقع لونها} شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي: {تسر الناظرين} أي تعجب الناظرين. وقوله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا {وإنا إن شاء الله} إذا بينتها لنا{لمهتدون} إليها عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "لولا أن بني إسرائيل قالوا {وإنا إن شاء الله لمهتدون} لما أعطوا ولكن استثنوا" (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الحافظ ابن مردويه بنحوه) {قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} أي إنها ليست مذللة بالحراثة، ولا معدة للسقي في السانية، بل هي مكرمة حسنة صبيحة مسلَّمة صحيحة لا عيب فيها {لا شية فيها} أي ليس فيها لون غير لونها وقال قتادة {مسلَّمة} يقول: لا عيب فيها {لا شية فيها} لونها واحد بهيم قاله عطاء {قالوا الآن جئت بالحق} قال قتادة: الآن بينت لنا، {فذبحوها وما كادوا يفعلون} قال الضحاك عن ابن عباس: كادوا أن لا يفعلوا - ولم يكن ذلك الذي أرادوا - لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والإضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها. قال ابن جرير: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع اللّه على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:52 | |
| @72 - وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون
- 73 - فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون
$ قال البخاري: {فادارأتم فيها} اختلفتم وهكذا قال مجاهد، {والله مخرج ما كنتم تكتمون} قال مجاهد: ما تغيبون. عن المسيب بن رافع: "ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها اللّه وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها اللّه" وتصديق ذلك في كلام اللّه: {واللّه مخرج ما كنتم تكتمون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن المسيب بن رافع) {فقلنا اضربوه ببعضها} هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبيَّنه اللّه تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه اللّه.
وقوله تعالى: {كذلك يحيي اللّه الموتى} أي فضربوه فحييَ، ونبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد، واللّه تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: {ثم بعثناكم من بعد موتكم} وهذ القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبّه تعالى بإحياء الارض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو رزين العقيلي رضي اللّه عنه، قال: قلت يا رسول اللّه: كيف يحيي اللّه الموتى؟ قال: "أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضراً"؟ قال: بلى، قال: "كذلك النشور" أو قال: "كذلك يحيي اللّه الموتى" (رواه الطيالسي عن أبي رزين العقيلي رضي اللّه عنه) وشاهد هذا قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون}.
@74 - ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون
$ يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات اللّه تعالى وإحيائه الموتى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك} كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى اللّه المؤمنين عن مثل حالهم، فقال: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة، بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشدَّ قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقَّق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية اللّه وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا يسبِّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} والمعنى: وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تُدْعون إليه من الحق.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يريد أن ينقض} قال الرازي والقرطبي: ولا حاجة إلى هذا، فإن اللّه تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: {فابين أن يحملنها وأشفقن منها} وقال: {تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} الآية، وقال: {والنجم والشجر يسجدان}، وقال: {قالتا أتينا طائعين} وفي الصحيح: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن"، وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما في معناه.
(تنبيه) اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم (أو) ههنا بمعنى الواو تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} وقوله: {عذراً أو نذراً} وكما قال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدراً * كما أتى ربَّه موسى على قَدَرَ
قال ابن جرير: يعني نال الخلافة وكانت له قدراً، وقال آخرون: (أو) ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} {فكان قاب قوسين أو أدنى}، وقال آخرون: معنى ذلك: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} عندكم حكاه ابن جرير. وقال بعضهم: معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين: إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة، قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة، وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره، (قلت) وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} مع قوله: {أو كصيب من السماء}، وكقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة}، مع قوله {أو كظلمات في بحر لجِّي} الآية أي: إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو هكذا، واللّه أعلم. عن ابن عمر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإن كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة القلب، وإنَّ أبعد الناس من اللّه القلب القاسي" (رواه ابن مردويه والترمذي في كتاب الزهد، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم) وروي مرفوعاً: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل والحرص على الدنيا" (رواه البزار عن أنَس بن مالك مرفوعاً) .
@75 - أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
- 76 - وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون
- 77 - أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون
$ يقول تعالى: {فتطمعون} يا أيها المؤمنون {أن يؤمنوا لكم} أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} أي يتأولونه على غير تأويله {من بعد ما عقلوه} أي فهموه على الجليّة، ومع هذا يخالفونه على بصيرة {وهم يعلمون} أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسة يحرفون الكفم عن مواضعه} وليس كلهم قد سمعها، ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها، قال السدي: هي التوراة حرّفوها. وقال قتادة في قوله: {ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} هم اليهود كانوا يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه، وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل اللّه في كتابهم من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، وقال السدي: {وهم يعلمون} أي أنهم أذنبوا، وقال ابن وهب في قوله {يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه} قال: التوراة التي أنزلها اللّه عليهم، يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراماً، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً.
وقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}، قال ابن عباس {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} أي قالوا: إنَّ صاحبكم رسول اللّه ولكنه إليكم خاصة. {وإذا خلا بعضهم إلى بعض} قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، {وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به. يقول اللّه تعالى: {أولا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون}؟ وقال الضحاك: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا آمنا، وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون، ليعلموا خبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر، فلما أخبر اللّه نبيّه صلى اللّه عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون: أليس قد قال اللّه لكم كذا وكذا، فيقولون: بلى.
قال أبو العالية {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال قتادة: {أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} كانوا يقولون سيكون نبيّ فخلا بعضهم ببعض فقالوا: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} وعن مجاهد في قوله تعالى: {أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم} قال: قام النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت فقالوا من أخبر بهذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا القول إلا منكم {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} بما حكم اللّه للفتح ليكون لهم حجة عليكم. وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم: لا تحدِّثوا أصحاب محمد بما فتح اللّه عليكم، مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقوله تعالى: {أولا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرو وما يعلنون} يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم. وقال الحسن: {إن اللّه يعلم ما يسرون} كان ما اسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم بما فتح اللّه عليهم مما في كتابهم، خشية أن يحاجّهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم {وما يعلنون} يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم آمنا.
@78 - ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون
- 79 - فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون
$ يقول تعالى: {ومنهم أميون} أي ومن أهل الكتاب، والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، وهو ظاهر في قوله تعالى: {لا يعلمون الكتاب} أي لا يدرون ما فيه، ولهذا في صفات النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون}، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا" الحديث. وقال تبارك وتعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} قال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه. وقوله تعالى: {إلا أماني} عن ابن عباس: {إلا أماني} يقول إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً، وقال مجاهد إلا كذباً، وعن مجاهد: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} قال: أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب اللّه ويقولون هو من الكتاب (أماني) يتمنونها، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان رضي اللّه عنه "ما تغنيت ولا تمنيت" يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب، وقيل: المراد بقوله {إلا أماني} بالتشديد والتخفيف أيضاً أي إلا تلاوة. واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الآية، وقال كعب بن مالك الشاعر:
تمنَّى كتاب اللّه أول ليله * وآخره لاقى حِمَام المقادر
{وإن هم إلا يظنون} يكذبون، وقوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً} الآية. هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على اللّه، وأكل أموال الناس بالباطل، والويلُ: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وعن ابن عباس الويل: المشقة من العذاب، وقال الخليل الويلُ: شدة الشر، وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم، وقال غيره: الويل الحزن. وعن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: {فويل للذي يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: هم أحبار اليهود، وقال السُّدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند اللّه ليأخذوا به ثمناً قليلاً، وقال الزهري عن ابن عباس: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابُ اللّه الذي أنزله على نبيّه أحدث أخبار اللّه تقرأونه غضاً لم يشب، وقد حدَّثكم اللّه تعالى أن أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب اللّه وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاَ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا واللّه ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم" وقوله تعالى: {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والإفتراء، وويلٌ لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما {فويل لهم} يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب {وويل لهم مما يكسبون} يقول: مما يأكلون به أولئك الناس السفلة وغيرهم. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:53 | |
| @80 - وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون
$ يقول تعالى إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسّهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فردَّ اللّه عليهم ذلك بقوله تعالى: {قل أتخذتم عند اللّه عهداً} أي بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى (بل) أي بل تقولون على اللّه ما لا تعلمون من الكذب والإفتراء عليه. قال مجاهد عن ابن عباس: إن اليهود كانوا يقولون: إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذّب بكل ألف سنةٍ يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل اللّه تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} إلى قوله: {خالدون} وقال العوفي عن ابن عباس: قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة وهي مدة عبادتهم العجل، وقال قتادة: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل، وقال عكرمة: خاصمت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون، يعنون محمداً صلى اللّه عليه وسلم واصحابه، فقال: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده على رؤوسهم: ( بل أنتم خالدون ومخلدون لا يخلفكم فيها أحد)، فأنزل اللّه عز وجلّ: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} الآية. عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاة فيها سمُّ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (اجمعو لي من كان من اليهود هنا) فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من أبوكم؟" قالوا: فُلان، قال: "كذبتم بل أبوكم فلان" فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم: "هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟" قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من أهل النار؟" فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اخسئوا واللّه لا نخلفكم فيها أبداً" ثم قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟"، قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟" فقالوا: نعم، قال: "فما حملكم على ذلك؟"، فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة رضي اللّه عنه) .
@81 - بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
- 82 - والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
$ يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة {وأحاطت به خطيئته} وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهذا من أهل النار. {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنوا باللّه ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة، فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيهٌ بقوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعملْ سوءاً يُجز به ولا يجدْ له من دون اللّه ولياً ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} قال ابن عباس: {بلى من كسب سيئة} أي عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال: الشركُ. وقال الحسن: السيئة الكبيرة من الكبائر، وقال عطاء والحسن: {وأحااطت به خطيئته} أحاط به شركه، وقال الأعمش: {وأحاطت به خطيئته} الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إيَّاكم ومحقراتِ الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجُل حتى يهلكنه" وإن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً وأجَّجوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها (رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه مرفوعاً) وقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيه خالدون} أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.
@83 - وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
$ يذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا قصداً وعمداً، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق اللّه تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير} وقال تبارك وتعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} إلى أن قال: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول اللّه أيُّ العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال "بر الوالدين" قلت: ثم أيُّ؟ قال: "الجهاد في سبيل اللّه". ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول اللّه مَن أبر؟ قال: "أمك" قال: ثم مَن؟ قال: "أمك"، قال ثم من؟ قال: "أباك؟ ثم أدناك ثم أدناك" وقوله تعالى: {لا تعبدون إلا اللّه} قال الزمخشري: خبر بمعنى الطلب وهو آكد. وقيل: كان أصله {أن لا تعبدوا إلا اللّه} فحذفت (أن) فارتفع {واليتامى} وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء، و{المساكين} الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم. وقوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} أي كلموهم طيباً ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال اللّه، وهو كل خلق حسن رضيه اللّه.
كما روي عن أبي ذر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "لا تحقرَّن من المعروف شيئاً وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق (أخرجه أحمد عن أبي ذر رضي اللّه عنه ورواه مسلم والترمذي) " يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان (الفعلي) و (القولي) ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد، بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر اللّه هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين} الآية.
@84 - وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون
- 85 - ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
- 86 - أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
$ يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود، الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا في الجاهلية عبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل (بنو قينقاع) و (بنو النضير) حلفاء الخزرج و (بنو قريظة) حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينتبهون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها افتكُّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟} ولهذا قال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"،
وقوله تعالى: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به، {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} الآية. عن ابن عباس: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} قال: أنبأهم اللّه بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة، ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذاً به بعضهم من بعض، يفتدي (بنو قينقاع) ما كان من أسراهم في أيدي (الأوس) ويفتدي (النضير وقريظة) ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم،
يقول اللّه تعالى ذكره: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك باللّه ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة. وقال السدي: نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذمَّ اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه، التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود - عليهم لعائن اللّه - يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌّ في الحياة الدنيا} أي بسبب مخالفتهم شرع اللّه وأمره {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} جزاء على مخالفتهم كتاب اللّه الذي بأيديهم {وما اللّه بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} أي استحبوها على الآخرة واختاروها {فلا يخفف عنهم العذاب} أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة {ولا هم ينصرون} أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم عليه
@87 - ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
$ ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد، والمخالفة والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو (التوراة) فحرَّفوها وبدَّلوها، وخالفوا أوامرها أولوها، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيه هدى ونور يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} الآية، ولهذا قال تعالى: {قفينا من بعده بالرسل} قال السدي: أتبعنا وقال غيره: أردفنا، والكل قريب كما قال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى بن مريم، فجاء بمخالفة
التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه اللّه من البينات وهي المعجزات، قال ابن عباس: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن اللّه، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس - وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض كما قال تعالى إخباراً عن عيسى: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم} الآية فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقاً يكذبونه، وفريقاً يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم، ولهذا قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}؟
والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما قال البخاري: عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول صلى اللّه عليه وسلم : "اللهم أيد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيك" وفي بعض الروايات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لحسّان: "أهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك" وفي شعر حسّان قوله:
وجبريل رسول اللّه فينا * وروح القدس ليس به خفاء
وعن ابن مسعود: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب (رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود) " وحكى القرطبي عن مجاهد القدُس: هو اللّه تعالى، وروحه جبريل وقال السدي: القدس البركة، وقال العوفي عن ابن عباس: القدس الطهر. وقال الزمخشري: {بروح القدس} بالروح المقدسة، كما تقول: حاتم الجود، ورجل صدق، ووصفها بالقدس كما قال {وروح منه} فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة، وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإنجيل كما قال في القرآن {روحاً من أمرنا} وقيل: باسم اللّه الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره. وقال أيضاً في قوله تعالى: {ففريقا كذبتم وفريقاً تقتلون} إنما لم يقل وفريقاً قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً لأنهم حاولوا قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال عليه السلام في مرض موته: "ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان انقطاع أبهري" (الحديث في صحيح البخاري وغيره)
@88 - وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
$ {وقالوا قلوبنا غلف} أي في أكنة: وقال ابن عباس: أي لا تفقه، وهي القلوب المطبوع عليها، وقال مجاهد: عليها غشاوة، وقال السدي: عليها غلاف وهو الغطاء فلا تعي ولا تفقه.{بل لعنهم اللّه بكفرهم} أي طردهم اللّه وأبعدهم من كل خير {فقليلاً ما يؤمنون} معناه: لا يؤمن منهم إلا القليل، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله: {غلف} تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي عن حذيفة قال: "القلوب أربعة" فذكر منها: "وقلبُ أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر" (أخرجه ابن جرير عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان) " ولهذا قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون} أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال تعالى: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}وقد اختلفوا في معنى قوله {فقليلاً ما يؤمنون} وقوله: {فلا يؤمنون إلا قليلاً} فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقيل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء وإنما قال: {فقليلاً ما يؤمنون} وهم بالجميع كافرون كما تقول العرب: قلَّما رأيت مثل هذا قط نريد ما رأيت مثل هذا قط، واللّه أعلم.
@89 - ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
$ يقول تعالى: {ولما جاءهم} يعني اليهود {كتاب من عند الله} وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم {مصدق لما معهم} يعني التوراة، وقوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث اللّه رسوله من قريش كفروا به. قال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال يستنصرون: يقولون نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك بل يكذبون. وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس: إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه اللّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر يهود اتقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنا مبعوث وتصفونه بصفته، فقال (سلاّم بن مشكم} أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} الآية. وقال العوفي عن ابن عباس: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى اللّه عليه وسلم على مشركي العرب، يعني بذلك أهل الكتاب، فلما بُعث محمد صلى اللّه عليه وسلم - ورأوه من غيرهم - كفروا به وحسدوه. قال مجاهد: {فلعنة اللّه على الكافرين} هم اليهود. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 00:56 | |
| @90 - بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
$ قال السدي: {بئسما اشتروا به أنفسهم} باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اتعاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم عن تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغيُ والحسدُ والكراهية ل {أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} ولا حسد أعظم من هذا. ومعنى (باؤا) استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب. قال أبو العالية: غضب اللّه عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب اللّه عليهم بكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن. قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله.
وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلو سجناً في جهنم يقال له (بولس) تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار" (رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً)
@91 - وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
- 92 - ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون
$ يقول تعالى: {وإذا قيل لهم} أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمنوا بما أنزل الله} على محمد صلى اللّه عليه وسلم وصدقوه واتبعوه، {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك {ويكفرون بما وراءه} يعني بما بعده، {وهو الحق مصدقا لما معهم} أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم {الحق مصدقاً لما معهم} من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ثم قال تعالى: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين}؟ أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم، والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل اللّه فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وقريقا تقتلون}. {وقال ابن جرير: قال يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا، لم تقتلون - إن كنتم مؤمنين بما أنزل اللّه - أنبياء اللّه يا معشر اليهود، وقد حرم اللّه في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من اللّه تكذيب لهم في قولهم{نؤمن بما أنزل علينا} وتعيير لهم. {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول اللّه وأنه لا إله إلا اللّه، والآيات والبينات هي: (الطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن، والسلوى، والحجر) وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها {ثم اتخذتم العجل} أي معبوداً من دون اللّه في زمان موسى وأيامه. وقوله: {من بعده} أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة اللّه عز وجلّ كما قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}، {وأنتم ظالمون} أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا اللّه كما قال تعالى: {ولما سقط في ايديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}.
@93 - وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
$ يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه: {ولهذا قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدم تفسير ذلك (انظر ص 73) {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} عن قتادة قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "حبك الشيْ يعمي ويصم" (رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه) وعن علي رضي اللّه عنه قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطىء نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفرّ وجهه مثل الذهب (رواه ابن أبي حاتم عن عليّ كرّم اللّه وجهه)
وقوله: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات اللّه، ومخالفتكم الأنبياء، ثم كفركم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمرو عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات اللّه، وعبادتكم العجل من دون اللّه.؟
@94 - قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
- 95 - ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين
- 96 - ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون
$ يقول اللّه تعالى لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم : {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمني} أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: {فتمنوا الموت} فسلوا الموت قال ابن عباس: "لو تمنى يهود الموت لماتوا ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه" (أخرجه ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس) وقال ابن جرر: وبلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً" ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} فهم - عليهم لعائن اللّه تعالى - لمّا زعموا أنهم أبناء اللّه وأحباؤه وقالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون، لانهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم. وهذا كما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: واللّه لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والمعنى إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء اللّه من دون الناس وأنكم أبناء اللّه وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة، لما يعلمون من كذبهم وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنياً لأن كل محق يود لو أهلك اللّه المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت، ولهذا قال تعالى: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء وعاقبتهم عند اللّه الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم، وهذا من باب عطف الخاص على العام، وقال الحسن البصري: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة {يود أحدهم} أي يود أحد اليهود لو يعمر ألف سنة {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} أي وما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه {والله بصير بما يعملون} أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عامل بعمله. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير الثلاثاء 17 أكتوبر 2006, 01:02 | |
| @97 - قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين
- 98 - من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين
$ قال أبو جعفر الطبري رحمه اللّه: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم، وأن ميكائيل وليٌّ لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمر نبوّته. عن ابن عباس قال: أقبلت يهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذا قال: {واللّه على ما نقول وكيل} قال: "هاتوا"، قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال: "تنام عيناه ولا ينام قلبه". قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكَّر؟ قال: "يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت"، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: "كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا"، قال أحمد، قال بعضهم: يعني الإبل. فحرم لحومها. قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: "ملك من ملائكة اللّه عزّ وجلّ موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره اللّه تعالى". قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: "صوته"، قالوا: صدقت. قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: "جبريل عليه السلام"، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوُّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل اللّه تعالى: {قل من كان عدو لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} (رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب) إلى آخر الآية. وفي رواية: إن يهود سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال: "جبريل" قالوا: فإنه عدوّ لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت: {قل من كان عدوا لجبريل} الآية.
وأخرج البخاري عن أنَس بن مالك قال: سمع (عبد اللّه بن سلاّم) بمقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً" قال: جبريل؟ قال: "نعم" قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك}."وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت"، قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "أي رجل عبد اللّه ابن سلام فيكم؟" قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: "أرأتيم إن أسلم" قالوا: أعاذه اللّه من ذلك فخرج عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول اللّه" (رواه البخاري وأخرجه مسلم قريباً من هذا السياق) .
وقال آخرون: بل كان سبب ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال عمر: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم، فأعجب من التوراة كيف تصدِّق القرآن من القرآن كيف يصدِّق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، (قلت) : ولم ذلك؟ قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدِّق التوراة، ومن التوراة كيف تصدِّق القرآن، قالوا: ومرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به، قال: فقلت لهم عند ذلك: نشدتكم باللّه الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول اللّه؟ قال: فسكتوا، فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلَّظ عليكم فأجيبوه، قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول اللّه، قلت: ويحكم إذاً هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنت تعلمون أنه رسول اللّه ولا تتبعونه ولا تصدقونه!! قالوا: إن لنا عدوّاً من الملائكة، وسلْماً من الملائكة، وإنه قرن بنبّوته عدوّنا من الملائكة، قلت: ومن عدوّكم ومن سِلمكم؟ قالوا: عدوّنا جبريل، وسِلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشدد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة، والتخفيف ونحو هذا، قال، قلت: وما منزلتهما من ربهما عزّ وجلّ؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال، فقلت: فوالذي لا إله إلا هو إنهما - والذي بينهما - لعدوّ لمن عاداهما وسِلْمٌ لمن سالمهما، وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل، قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال: "يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل" فقرأ علي: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} حتى قرأ الآيات. قال، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر" (ذكره ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي)
وقال ابن جرير: انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به، فقال لهم عمر: أما واللّه ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرِّنا وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة (المراد بالسنة: القحط والجدب) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً صلى اللّه عليه وسلم، ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى اللّه عليه وسلم ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} الآيات.
وقال ابن جرير عن أبن أبي ليلى في قوله تعالى: {من كان عدوا لجبريل} قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن (ميكائيل) كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن (جبرائيل) ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا، قال: فنزلت هذه الآية.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من اللّه بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل اللّه ملكيَّ، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الغيمان بجميع الرسل، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ للّه لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين* نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين}.
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب" ولهذا غضب اللّه لجبرائيل على ما عاداه، فقال تعالى: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن اللّه مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب المتقدمة {وهدى وبشرى للمؤمنين} أي هدى لقلوبهم، وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}، وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، ثم قال تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر - كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}، {وجبريل وميكال} وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثم خُصّصا بالذكر لأن السياق في الإنتصار لجبرائيل، وهو السفير بين اللّه وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم اللّه تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر، وعادى اللّه أيضاً، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء بعض الأحيان كما قرن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر. هذا بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد اللّه وعبد الرحمن، وقيل جبر: عبد، وإيل: اللّه. وقوله تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل (فإنه عدو) بل قال: {فإن اللّه عدو للكافرين} كما قال الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ * سبق الموتُ ذا الغنى والفقيرا
وإنما أظهر اللّه هذا الإسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً للّه فقد عادى اللّه، ومن عادى اللّه فإن اللّه عدو له، ومن كان اللّه عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة" (الرواية تقدمت بلفظ (فقد بارزني بالحرب) وذكر ابن كثير أنه رواية البخاري رضي الله عنه) وفي الحديث الصحيح: "من كنت خصمه خصمته". | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 16:19 | |
| جماعة لو مفيش حد بيقرأ قولولي عشان متعبش نفسي عالفاضي | |
|
| |
مخلوقة فى الكون مشرفة طرق الاسلام العام
عدد الرسائل : 958 تاريخ التسجيل : 22/09/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 16:46 | |
| يااخت حبيبة مش شرط ابدا انه حد يكون بيقرأ اللى انت بتعمليه ده دلوقتى انا عارفه انه كتير وهيكون صعب على حد انه يقرأه كله مرة واحدة لكن متنسيش انه ده هيكون مرجع للكل فى اى وقت يقدروا يدخلوا عليه ويقرأوا ويستفيدوا بإذن الله فمتزعليش ابدا لو محدش كان متابع دلوقتى المهم انك بتعملى ده لله وان شاء الله اكيد هييجى اللى يستفيد منه ومتنسيش الثواب الكبير اللى بتاخديه على نقلك ده واننا مأمورين نبلغ ولو آية عن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام فياريت متتوقفيش عن عملك ده يااختى وربنا يجعله فى ميزان حسناتك | |
|
| |
AboGaafer عضو ممتاز
عدد الرسائل : 341 تاريخ التسجيل : 03/09/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 16:52 | |
| لالالالالالالالالالا يا حبيبة بلاش الكلام ده إنتي بتعملي خير و الموضوع ده جميل جدا و دي موسوعة جميلة إنها تكون موجوده في المنتدى و أي حد ممكن يرجعلها في أي وقت و على فكرة بذرة الخير لازم تبنت و لو بعد 100 سنة بس إنتي ماتستعجليش ماشي و جزاكي الله عنا خير الجزاء | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:17 | |
| أنا بس ملقتش عدد المشاهدين بيزيد قلت يمكن مبتفيدش ع العموم ولا تزعلو نفسكو و هحاول على قد ماقدر ابعته كله و جزاكم الله خير على الردود الجميلة دي | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:21 | |
| @99 - ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون
- 100 - أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون
- 101 - ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون
- 102 - واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
- 103 - ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون
$قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} الآية. أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالاّت على نبوّتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب اللّه من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع اللّه في كتابه الذي أنزله على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ. عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل اللّه عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل اللّه في ذلك: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكَّرهم ما أُخذ عليهم من الميثاق، وما عُهد إليهم في محمد صلى اللّه عليه وسلم : {واللّه ما عهد إلينا في محمد، وما أُخذ علينا ميثاقٌ، فأنزل اللّه تعالى: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} وقال الحسن البصري في قوله: {بل أكثرهم لا يؤمنون} قال: نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً، وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال قتادة: {نبذه فريق منهم} أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ - وهو التمر والزبيب - إذا طرحا في الماء، قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه * كنبذك نعلاً أخلقتْ من نعالكا
قلت: فالقوم ذمهم اللّه بنبذهم العهود التي تقدم اللّه إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}، وقال ههنا: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} الآية، أي طرح طائفة منهم كتاب اللّه الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وراء ظهورهم، أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتّباعه، ولهذا أرادوا كيداً برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسحروه في مُشْط ومُشَاقه وجُفّ طلعة ذَكَرٍ تحت راعوفة ببئر أروان، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له (لبيد بن الأعصم) لعنه اللّه وقبحه، فأطلع اللّه على ذلك رسوله صلى اللّه عليه وسلم وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين كما سيأتي بيانه.
قال السدي: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} قال: لما جاءهم محمد صلى اللّه عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فذلك قوله: {كأنهم لا يعلمون} وقال قتادة في قوله: {كأنهم لا يعلمون} قال: إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به. عن ابن عباس قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الإسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبُّوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبّونه حتى أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم : {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} وقال السدي في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} أي على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه.
فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً (أي لا ينفد بالأكل منه) قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوهها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنوا إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصموه بها فذلك حين يقول اللّه تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخّر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستخرجوه وعملوا به، فأنزل اللّه تعالى على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} لما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما نزل عليه من اللّه (سليمان بن داود) وعدّه فيمن عد من المرسلين، قال مَن كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد؟ يزعم أن ابن داود كان نبياً واللّه ما كان إلا ساحراً، وأنزل اللّه: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} الآية.
وروي أنه لما مات سليمان عليه السلام قام إبليس - لعنه اللّه - خطيباً فقال: يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: واللّه لقد كان سليمان ساحراً، هذا سحرهُ بهذا تعَّبدنا وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبياً مؤمناً. فلما بعث اللّه النبي محمداً صلى اللّه عليه وسلم وذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح، فأنزل اللّه تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان} (رواه ابن جرير عن شهر بن حوشب) الآية. فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام.
وقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب اللّه الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعدّاه بعلى لأنه تضمن {تتلو} تكذب.
وقال ابن جرير: {على} ههنا بمعنى في، أي تتلو في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق (قلت) والتضمن أحسن وأولى، واللّه أعلم وقول الحسن البصري رحمه اللّه: - وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيحٌ لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} الآية ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: {وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة} وقال قوم صالح - وهم قبل ابراهيم الخليل عليه السلام - لنبيهم صالح إنما {أنت من المسحَّرين} أي المسحورين على المشهور، وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين بباب هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفره فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية أعني التي في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال القرطبي: "ما" نافية ومعطوف على قوله {وما كفر سليمان} ثم قال {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين}، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم اللّه وجعل قوله {هاروت وماروت} بدلاً من الشياطين، قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الإثنين كما في قوله تعالى: {فإن كان له إخوة} أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما. تقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل} الآية. يقول: لم ينزل اللّه السحر، وبإسناده عن الربيع بن أنَس في قوله {وما أنزل على الملكين} قال: ما أنزل اللّه عليهما السحر. قال ابن جرير. فتأويل الآية على هذا "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل اللّه السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون قوله {ببابل هاروت وماروت} من المؤخر الذي معناه المقدم قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وما كفر سليمان وما أنزل اللّه السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت" فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن اللّه أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم اللّه بذلك وأخبر نبيّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما (هاروت) واسم الآخر (ماروت) فيكون هاروت وماروت علىهذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وإن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما اللّه إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بيَّن لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً، وأغرب منه قوله من زعم أن {هاروت وماروت} قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم.
وقد روي في قصة (هاروت) و (ماروت) عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنَس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم وقصَّها خلق من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده اللّه تعالى، واللّه أعلم بحقيقة الحال
وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}، عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي اراد اللّه أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة: أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال ابن جرير في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر. وأما الفتنة فيه المحنة والأختبار، ومنه قول الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شراً طويلا
(يتبع...) | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:22 | |
| @(تابع... 1): 99 - ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون... ...
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: {إن هي إلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح: "من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم " (رواه البزار بسند صحيح) وقوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر، ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والإئتلاف، وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا واللّه ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرّقت بينه وبين أهله، قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت (رواه مسلم عن جابر بن عبد اللّه) " وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.
وقوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} قال سفيان الثوري: إلا بقضاء اللّه، وقال الحسن البصري: من شاء اللّه سلطهم عليه ومن لم يشأ اللّه لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن اللّه وقوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس من نصيب، {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} يقول تعالى {ولبئس} البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم علم بما وعظوا به {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير} أي ولو أنهم آمنوا باللّه ورسله واتقوا المحارم، لكان مثوبة اللّه على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب اللّه خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقَّاها إلا الصابرون}.
وقد استدل بقوله: {ولو أنهم آمنوا واتقوا} من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل وطائفة من السلف، وقيل: بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر (رواه البخاري من صحيحه) وصح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد ابن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم في قتل الساحر، وروى الترمذي عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "حد الساحر ضربه بالسيف" (رواه الترمذي عن جندب الأزدي مرفوعاً وقال: لا نعرفه مرفوعاً ألا من هذا الوجه) وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عُقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان اللّه يحيي الموتى!! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إنْ كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أتاتون السحر وأنتم تبصرون} فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، واللّه أعلم. وحمل الشافعي رحمه اللّه قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، واللّه أعلم.
فصل
حكى الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفَّروا من اعتقد وجوده، وأما أهل السنّة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا: إن اللّه يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استُدل على وقوع السحر، وأنه بخلق اللّه تعالى بقوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}. ومن الأخبار بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سُحِرَ وأن السحر عمل فيه، وبقصة المرأة مع عائشة رضي اللّه عنها، وما ذكرت من إتيانها بابل وتعلمها السحر.
ثم قد ذكر أبو عبد اللّه الرازي أن أنواع السحر ثمانية (الأول) : سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث اللّه إليهم ابراهيم الخليل مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم.
(والنوع الثاني) : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام، وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق لما ثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين".
(والنوع الثالث) من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الإتصال بهذه الأرواح الأرضيه يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
(النوع الرابع) من السحر: التخيلات، والأخذ بالعيون، والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه، فيتعجبون منه جداً، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
(قلت) وقد قال بعض المفسِّرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب بالشعبذة ولهذا قال تعالى: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم} وقال تعالى: {يخَيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى} قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر، واللّه أعلم.
(النوع الخامس) من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورنها ضاحكة ؟؟ إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل، ؟؟ ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها، ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطعام منهم، وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم.
(النوع السادس) من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية في الأطعمة والدهانات، قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير المغناطيس مشاهد. (قلت) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص، مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
(النوع السابع) من السحر: التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الإسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخالفة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت) : هذا النمط يقال له التّنْبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم، وفي عِلْم الفِراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
(النوع الثامن) من السحر: السعي بالنميمة من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس (قلت) النميمة على قسمين: تارةً تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين، أو على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث: "الحرب خدعة" وإنما يحذوا على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة واللّه المستعان.
ثم قال الرازي فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، (قلت) : وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: "إن من البيان لسحراً"، وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسَّحْرُ: الرئة، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سَحْره، أي انتفخت رئته من الخوف وقالت عائشة رضي اللّه عنها: توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين سَحْري ونحري.
وقال القرطبي: وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة، يخلق اللّه عنده ما يشاء، خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخيل، قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء اللّه تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك، قال: وقوله عليه السلام: "إن من البيان لسحراً" يحتمل أن يكون مدحاً كما تقوله طائفة ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة، قال: وهذا أصح، قال: لأنها تصوّب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال عليه الصلاة والسلام: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث.
فصل
واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه اللّه: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر. فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند (مالك والشافعي وأحمد) وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه فصاصاً، قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل لقصة (لبيد بن الأعصم)، واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل واللّه أعلم.
مسْألة
وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجازه سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يا رسول اللّه هلا تنشرت، فقال: "أمَّا اللّه فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً" وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر، فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته (قلت) : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل اللّه على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث: "لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما" وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان: | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:24 | |
| @104 - يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم
- 105 - ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
$ نهى اللّه تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن اللّه - فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا (راعنا) ويورُّون بالرعونة، كما قال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا . ليا بألسنتهم وطعنا في الدين} وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلَّموا إنما يقولون (السام عليكم) والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب (وعليكم)، والغرض أن اللّه تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} وقال صلى اللّه عليه وسلم : "من تشبه بقوم فهو منهم" (أخرجه أحمد وابو داود عن ابن عمر رضي اللّه عنهما) ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار، في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها.
وروي أن رجلاً أتى عبد اللّه بن مسعود فقال: اعهد إليّ، فقال: إذا سمعت اللّه يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك فإنه خيرٌ يأمر به، أو شر ينهى عنه، وقال الأعمش عن خيثمة ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا} فإنه في التوراة: (يا أيها المساكين) قال ابن عباس: (راعنا) أي أرعنا سمعَك، وقال الضحاك: كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم : أرعنا سمعك، قال عطاء: كانت لغة تقولها الأنصار فنهى اللّه عنها، وقال أبو صخر: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أدبر ناداه مَن كانت له حاجة من المؤمنين فيقول: أرعنا سمعك، فأعظم اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يقال ذلك له. وقال السُّدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى (رفاعة بن زيد) يأتي النبي صلى اللّه عليه وسلم فإذا لقيه فكلَّمه قال: أرعني سمعك، واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخّم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، فنهوا أن يقولوا راعنا، قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن اللّه نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم راعنا، لأنها كلمة كرهها اللّه تعالى أن يقولوها لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم وقوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} يبيّن بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذَّر اللّه تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ليقطع المودَّة بينهم وبينهم، ونبَّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين، من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى اللّه عليه وسلم حيث يقول تعالى: {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:25 | |
| @106 - ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير
- 107 - ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: {ما ننسخ من آية} ما نبدل من آية، وقال مجاهد: {ما ننسخ من آية} أي ما نمحو من آية، مثل قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنَيا فارجموهما البتّة"، وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً"، وقال ابن جرير: {ما ننسخ من آية} ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيّره، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في (الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة) فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ: من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أُخرى إلى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها، وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة، وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمرُ في ذلك قريب. لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بعضهم أنه: رفع الحكم بدليل شرعي متأخر، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدل. وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أُصول الفقه. وقال الطبراني: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها" (رواه الطبراني وفي سنده سليمان بن الأرقم ضعيف) " فكان الزهري يقرؤها: {ما ننسخ من آية أو ننسها} بضم النون الخفيفة
وقوله تعالى {أو ننسها} فقرىء على وجهين: {نَنْسأها}، {ونُنسِها}، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود {أو ننسأها} نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال مجاهد وعطاء: {أو ننسأها} نؤخرها ونرجئها. عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي اللّه عنه فقال: يقول اللّه عز وجلّ: {ما ننسخ من آية أو ننسأها} أي نؤخرها (ذكره ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس)، وأما على قراءة {أو نُنْسها} فقال قتادة: كان اللّه عزّ وجلّ ينسي نبيّه صلى اللّه عليه وسلم ما يشاء، وينسخ ما يشاء. وقال ابن جرير عن الحسن في قوله: {أو ننسها} قال: إن نبيكم صلى اللّه عليه وسلم قرأ قرآناً ثم نسيه، وعن ابن عباس: قال: "كان مما ينزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار" (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس) وقال عمر: أقرؤنا أبيّ، واقضانا علي، وإنَّا لندع من قول أبيّ، وذلك أن أبيّاً يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد قال اللّه {ما ننسخ من آية أو ننسها} (أخرجه البخاري بسنده إلى عمر رضي اللّه عنه) وقولهُ: {نأت بخير منها أو مثلها} أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال ابن عباس: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال السدي: {نأت بخير منها أو مثلها} نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه.
وقوله: {ألم تعلم أن اللّه على كل شيء قدير* ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر، وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنها اللّه في دعوى إستحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملء السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند اللّه بتغيير ما غيَّر اللّه من حكم التوراة، فأخبرهم اللّه أن له ملك السماوات وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
(قلت) : الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام اللّه تعالى، لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانا ثم نسخ حلَّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود عليهم لعنة اللّه حيث قال تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} الآية فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء {ألا له الخلق والأمر}.
والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام اللّه تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسِّر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيفٌ مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الأثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وغير ذلك واللّه أعلم. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:26 | |
| @108 - أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
$ نهى اللّه تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرَّم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته". وثبت في الصحيحين من حديث المغيرة ابن شعبة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. وفي صحيح مسلم:"ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن اللّه كتب عليهم الحج فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت عنه رسول اللّه ثلاثاً، ثم قال عليه السلام: "لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم" الحديث. ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وعن ابن عباس قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن {يسألونك عن الخمر والميسر - و - يسألونك عن الشهر الحرام - ويسألونك عن اليتامى} (رواه البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) يعني هذا وأشباهه.
وقوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو (إنكاري) وهو يعمّ المؤمنين والكافرين، كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزِّل عليهم كتاباً من السماء} عن ابن عباس قال: قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل اللّه من قولهم: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} (أخرجه محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس)
وقال مجاهد: سألت قريش محمداً صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، قال: "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل" فأبوا ورجعوا، والمراد أن اللّه ذم من سأل الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً. قال اللّه تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} أي ومن يشترِ الكفر بالإيمان {فقد ضل سواء السبيل} أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:26 | |
| @109 - ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
- 110 - وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير
$ يُحذِّر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الإحتمال حتى يأتي أمر اللّه من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال ابن عباس: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود العرب حسداً، إذ خصهم اللّه برسوله صلى اللّه عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل اللّه فيهما: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم} الأية. روي أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيه أنزل اللّه: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم} إلى قوله: {فاعفوا واصفحوا} قال تعالى: {كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} يقول من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيَّرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل اللّه عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته له. وقال الربيع بن أنَس {من عند أنفسهم} من قِبَل أنفسهم، وقال أبو العالية: {من بعد ما تبين لهم الحق} من بعد ما تبين أن محمداً رسول اللّه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسداً وبغياً.
قال ابن عباس في قوله {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي اللّه بأمره} نسخ ذلك قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر}، وكذا قال أبو العالية وقتادة والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {حتى يأتي الله بأمره}.
وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} يحثهم تعالى على الإشتغال بما ينفعهم، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكَّن لهم اللّه النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولهذا قال تعالى: {إن الله بما تعملون بصير} يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال ابن جرير في قوله تعالى: {إن اللّه بما تعملون بصير} هذا الخبر من اللّه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سراً وعلانية فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيراً وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج فإن فيه وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته إذ كان مذخوراً لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} وليحذروا معصيته. قال وأما قوله {بصير} فإنه (مبصر) صرف إلى بصر كما صرف (مبدع) إلى بديع و (مؤلم) إلى أليم، واللّه أعلم. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:27 | |
| @111 - وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
- 112 - بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
- 113 - وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
$ يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها فأكذبهم اللّه تعالى كما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة، ورد عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة {تلك أمانيهم} قال أبو العالية: أمانيّ تمنوها على اللّه بغير حق، ثم قال تعالى: {قل} أي يا محمد {هاتوا برهانكم} أي حجتكم {إن كنتم صادقين} أي فيما تدعونه.
ثم قال تعالى: {بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسن} أي من أخلص العمل للّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي للّه ومن اتبعن} الآية. وقال سعيد بن جبير: {بلى من أسلم} أخلص {وجهه} قال: دينه {وهو محسن} أي اتبع فيه الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإنَّ للعمل المتقبل شرطين: أحدهما: أن يكون خالصاً للّه وحده، والآخر أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل، ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (رواه مسلم من حديث عائشة مرفوعا) " فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه للّه - فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى اللّه عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال اللّه تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وقال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا}، وقال تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية * تسقى من عين آنية} وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي، وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد للّه فهو أيضاً مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين، كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون اللّه إلا قليلاً}، وقال تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}، ولهذا قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} وقال في هذه الآية الكريمة: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن}، وقوله: {فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور {لا خوف عليهم} فيما يستقبلونه، {ولا هم يحزنون} على ما مضى مما يتركونه.
وقوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} بيَّن به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم، كما قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل اللّه في ذلك من قولهما: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} قال: إن كلاّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ اللّه عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى وما جاء من التوراة من عند اللّه وكل يكفر بما في يد صاحبه. وهذا القول يقتضي أن كلاً من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلك، ولهذا قال تعالى: {وهم يتلون الكتاب} أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عناداً وكفراً ومقابلة للفاسد بالفاسد وقوله: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} بيَّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا به من القول وهذا من باب الإيماء والإشارة، وقد اختلف فيمن عنى بقوله تعالى: {الذين لا يعلمون} قال ابن جريج: قلت لعطاء: مَن هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أُمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل، وقال السُّدي: {كذلك قال الذين لا يعلمون} هم العرب قالوا ليس محمد على شيء، واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع وليس ثَمَّ دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج: {إن الذين آمنوا والذن هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركون إن اللّه يفصل بينهم يوم القيامة إن اللّه على كل شيء شهيد}، وكما قال تعالى: {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم}. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:29 | |
| @114 - ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
$ اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد اللّه وسعوا في خرابها على قولين: أحدهما: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. قال قتادة: أولئك أعداء اللّه النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وقال السُّدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن يطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. (القول الثاني) : ما رواه ابن جرير عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم: "ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده" فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: {وسعى في خرابها} عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل اللّه: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس. (قلت) : والذي يظهر - واللّه أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذي أخرجوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم اللّه وهم يصدون عن المسجد الحرام}. وقال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله} وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر اللّه فيها وفي إقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك
وقوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية، ولهذا لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادي برحاب مِنى: "ألا يحجنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفنَّ بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته"، وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد اللّه إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم، وقيل: إن هذا بشارة من اللّه للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم، وقد أنجز اللّه هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها وللّه الحمد والمنة، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام، وتطهير البقعة التي بعث اللّه فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً صلوات اللّه وسلامه عليه، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صُدُّوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أُجلوا عنها {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير اللّه عنده، والطواف به عرياً وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها اللّه ورسوله، وأما من فسر بيت المقدس فقال (كعب الأحبار) إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه، فلما بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم أنزل عليه: {ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً، وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
@115 - ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم
$ وهذا واللّه أعلم فيه تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلّي بمكّة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صرفه اللّه إلى الكعبة بعد، ولهذا يقول تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثَمَّ وجه اللّه} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره اللّه أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل اللّه: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله: {فولوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} فأنزل اللّه {قل للّه المشرق والمغرب}، وقال: {فأينما تولوا فثم وجه اللّه} وقال عكرمة: عن ابن عباس {فأينما تولوا فثم وجه اللّه} قال: قبلة اللّه أينما توجهت شرقاً أو غرباً، وقال: مجاهد {فأينما تولوا فثم وجه اللّه} حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة. وقال ابن جرير: وقال آخرون: بل أنزل اللّه هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها ليعلم نبيّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أن له التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنه لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلوا منه مكان كما قال تعالى: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال، وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلوا منه مكان؛ إن أراد علمه تعالى فصحيح، فإنَّ علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذناً من اللّه أن يصلي (المتطوع) حيث توجه من شرق أو غرب في سفره لما روى عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية: {فأينما تولوا فثم وجه اللّه (رواه مسلم والترمذي والنسائي) }
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآي في قوم عميت عليه القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلُّو على أنحاء مختلفة، فقال اللّه تعالى: لي المشارق والمغارب، فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية، لما روي عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلىغير القبلة، فقلنا: يا رسول اللّه لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل اللّه تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله (رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: هذا حديث حسن وليس إسناده بذاك) } الآية
عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدثوه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} (رواه ابن مردويه من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وفيه ضعف)
قال بن جرير: ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. قال مجاهد: لما نزلت {ادعوني أستجب لكم} قالوا: إلى أين؟ فنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} ومعنى قوله: {إن الله واسع عليم} يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله: {عليم} فإنه يعن عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم. | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:29 | |
| @116 - وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون
- 117 - بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
$ اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن اللّه وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات اللّه، فأكذب اللّه جميعهم في دعواهم وقولهم إن للّه ولداً فقال تعالى {سبحانه} أي تعالى وتقدّس وتنزَّه عن ذلك علواً كبيراً: {بل له ما في السموات والأرض} أي ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم، ومقدرهم ومسخِّرهم ومسيّرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ كما قال تعالى: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}، وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً}، وقال تعالى: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}، فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد؟ ولهذا قال البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "قال اللّه تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولداً، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً" وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم".
وقوله {كل له قانتون} مقرّون له بالعبودية. وقال السدي: أي مطيعون يوم القيامة، وقال مجاهد: {كل له قانتون} مطيعون. قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره، وهذا القول - وهو اختيار ابن جرير - يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت الطاعة والاستكانة إلى اللّه وهو شرعي وقدري كما قال تعالى: {لله يسجد من في السموات ومن في الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال}.
وقوله تعالى: {بديع السماوات والأرض} أي خالقهما على غير مثال سبق وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم " فإن كل محدثة بدعة" والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: "نعمت البدعة هذه" وقال ابن جرير: {بديع السماوات والأرض} مبدعهما وإنما هو (مُفْعِل) فصرف إلى فعيل كما صرف المؤلم إلى الأليم، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث مالا يسبقه إلى أنشاء مثله وإحداثه أحد. قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعاً لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: سبحان اللّه أن يكون له ولد وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلامٌ من اللّه لعباده أن ممن يشهد له بذلك (المسيح) الذي أضافوا إلى اللّه بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثلا، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته، وهذا من ابن جرير رحمه اللّه كلام جيد وعبارة صحيحة.
وقوله تعالى {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} يبيّن بذلك كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدّر أمراً وأراد كونه فإنما يقول له {كن} أي مرة واحدة {فيكون} أي فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}، وقال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}، وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر}، وقال الشاعر:
إذا ما أراد اللّه أمراً فإنما * يقول له كن قولة فيكون | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:30 | |
| @118 - وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون
$قال ابن عباس: قال رافع بن حرملة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا محمد إن كنت رسولاً من اللّه كما تقول، فقل للّه فيكلمنا حتى نسمع كلامه. فأنزل اللّه في ذلك من قوله: {وقال الذي لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} (أخرجه محمد بن إسحاق عن ابن عباس) وقال مجاهد: النصارى تقوله، وقال قتادة والسُّدي: هذا قول كفّار العرب، {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} قال: هم اليهود والنصارى، ويؤيد هذا القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} الآية، وقوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} إلى قوله: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} وقوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأُمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم.
وقوله تعالى: {تشابهت قلوبهم} أي اشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به}؟ الآية. وقوله تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر، وزيادة أُخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاءوا به عن اللّه تبارك وتعالى، وأما من ختم اللّه على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فأولئك قال اللّه فيهم: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.
@119 - إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم
$ عن ابن عباس قال: "بشيراً بالجنة ونذيراً من النار"، وقوله: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} قراءة أكثرهم {ولا تسئل} بضم التاء على الخبر، وفي قراءة ابن مسعود {ولن تسئل} عن أصحاب الجحيم أي لا نسألك عن كفر من كفر بك، كقوله: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التوراة فقال: أجل واللّه إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزاً للأميين؛ أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً) (رواه البخاري وأحمد) | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:31 | |
| @120 - ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير
- 121 - الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون
$ قال ابن جرير: يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا اللّه في دعائهم إلى ما بعثك اللّه به من الحق. وقوله تعالى: {قل إن هدى اللهو الهدى} أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعدما علموا من القرآن والسنّة - عياذاً باللّه من ذلك - فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقول: {حتى تتبع ملتهم} حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفّار، وكلٌ منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة.
وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}، قال قتادة: هم اليهود والنصارى واختاره ابن جرير، وقال سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله اللّه ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله، وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقال سفيان الثوري عن عبد اللّه بن مسعود في قوله: {يتلونه حق تلاوته} يتبعونه حق اتباعه. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة، وعن عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآيى رحمة سألوها من اللّه، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ. وقوله: {أولئك يؤمنون به} خبر، أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} الآية. وقال: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}، أي إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حق الإيمان، وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته وصفته، والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} الآية. وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون}، وقال تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ واللّه بصير بالعباد}، ولهذا قال تعالى: {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}، كما قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فأنار موعده} وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً) . | |
|
| |
حبيبة عضو مميز
عدد الرسائل : 210 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 05/10/2006
| موضوع: رد: مختصر تفسير ابن الكثير السبت 28 أكتوبر 2006, 22:32 | |
| @122 - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
- 123 - واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون
$ قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأُمته فحذرهم من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة اللّه عليهم من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم اللّه من إرسال الرسول الخاتم منهم، ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته، صلوات اللّه وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. | |
|
| |
| مختصر تفسير ابن الكثير | |
|