مفكر هندي: تخلفنا حينما فصلنا بين علوم الدين وعلوم الدنيا
حوارات :عام :الأربعاء 23 جمادى الآخرة 1427هـ –19 يوليو 2006م - فصل الدين عن العلم جعل شبابنا ينبهر بعلوم الغرب ويشك في الإسلام.- المسلمون يعانون الآن من تخلف في العلوم وتخلف في فهم الدين.- ما ورد في السنة عن فتنة الدجال ينطبق على فتنة الحضارة الغربية.- المسلمون نسوا علم الأسماء الذي هو مناط الخلافة في الأرض. حاوره/ أحمد وهدان مفكرة الإسلام : محمد شهاب الدين الندوي أمين عام الأكاديمية الفرقانية ببنجلور بالهند.. أحد المثقفين المسلمين المهتمين بقضية النهضة العلمية والتكنولوجية المنتظرة في العالم الإسلامي. ولذلك جاءت كل إسهاماته الفكرية وكتبه لتدور في هذا الفلك. فله من الكتب: بين علم آدم والعلم الحديث – الأدلة العلمية الحديثة على المعاد الجسدي – التجليات الربانية في عالم الطبيعة – نهضة العالم الإسلامي في ظلال القرآن – الاستنساخ الجيني يصدق المعاد الجسدي – أهمية علم الكيمياء والفيزياء – التقدم في العلم والتكنولوجيا – القرآن الكريم والكيمياء الحيوية – القرآن الحكيم ودنيا النبات.
وأثناء زيارته للقاهرة التقينا به لنتجول معه في هذا العالم الذي نذر نفسه له.
* يعيش العالم الإسلامي منذ عدة قرون حالة من الانحطاط والتخلف. ..ما هو تفسيرك لهذه الحالة؟ وما نتائجها على المسلمين؟ وكيف نستطيع تجاوزها؟** العامل الرئيسي في هذا الأمر هو هبوط الدول المسلمة في العصور الوسطى عسكرياً وسياسياً، فأدى ذلك إلى انقطاع الاتصال بينهم وبين العلوم الطبيعية، لأن التقدم فيها يحتاج إلى إشراف الحكومات إشرافاً كلياً، وقد خسر الإسلام من هذه الظاهرة المريرة خسرانا مبينا، وهذا التخلف والتقهقر لم يكن من الناحية العلمية والتقنية فقط بل كان تخلفاً من الوجهة الشرعية أيضا. فأي أمة تقهقرت في العلوم المادية تأخرت في حقول المدنية والاجتماع والاقتصاد والعسكرية والسياسة، لأن هذه العلوم أحاطت بعالم البشر بالكامل، والأمم المتسلحة بهذه العلوم ترهب الأمم الضعيفة كل يوم وتهددها في كل آن. وأما اعتبار التخلف العلمي تخلفا شرعيا أيضا فإن الانفصال بين العلم والدين ينتهي إلى تضعيف الدين نفسه من عدة جهات... من جهة الانحلال الفكري, ومن جهة فشل الدين في مجال الحجة والاستدلال... ومن جهة القنوط واليأس من التقدم حتى وإن كان مرتكزا على الدين.. الخ.
والإسلام كما أنه دين كامل من الوجهة الشرعية والروحية، فهو دين مكتمل أيضا من الوجهة المدنية والحضارية: يرشد في جميع القضايا التي يحتاجها البشر. لكن المسلمين رفضوا اليوم تعاليمه المدنية والحضارية معتنقين تعاليمه الفقهية، بدون الاجتهاد في مدلولاتها العلمية والحضارية فانكمش الإسلام وانحصر في عبادات وطقوس وعادات.
وخلاصة القول أن من أسباب تخلف المسلمين أنهم نسوا بالجملة العلم الذي عليه مناط الخلافة الأرضية، وهو علم الأشياء أو بالمصطلح القرآني 'علم الأسماء' وهو الذي يحافظ على الدين والشريعة من زوايا كثيرة ويحفظ التوازن للمجتمع. ...فلا يستحكم الدين إلا بعد الحذق فيه، وهذا هو السر الذي لأجله كرم الله آدم، فأعطاه هذا العلم بعد خلقه على الفور[وعلم آدم الأسماء كلها] أي أطلعه على جميع الأشياء الكونية والمخلوقات الإلهية وأخبره بمسمياتها وخواصها وتأثيراتها ومنافعها الدينية والدنيوية، وهذه الأشياء وخواصها هي موضوع العلم التجريبي الحديث.
وهكذا فلا بعد بين علم آدم والعلم الحديث لأن عليه مدار الخلافة في الأرض، ولذلك قدم الله تعالى تعليم آدم على الملائكة.
* هل نفهم من ذلك أن من أسباب تخلفنا العلمي أننا فصلنا بين علوم الدين وعلوم الدنيا؟** نعم هذا واقع وحقيقي، فالإسلام لعب دورا تاريخيا باتخاذ الأيدلوجية الصحيحة التي تجمع بين الدين والدنيا… كما قام المسلمون ببطولة كبيرة في قرونهم الذهبية بأن استخدموا الناحيتين الدينية والدنيوية معا، فأدى ذلك إلى المطابقة الكاملة بين الفطرة والشريعة. ولم يعرف تاريخ الإسلام الصراع بين الدين والعلم مثلما كان الحال في تاريخ المسيحية، حيث كان الصراع مستفحلا بينها وبين العلم مما أدى إلى نمو وازدهار الإلحاد واللادينية، وللأسف وصلت هذه الظاهرة إلى حياة المسلمين بسبب تقصير علماء الدين الذين انفصلوا عن العلوم الحديثة تماما ولم يعتبروا بتأثيراتها، بل جحدوا أن يكون لها أي اتصال مع الدين، فكان لهذا الموقف تأثير كبير على شباب المسلمين فآمنوا بعلوم الغرب وشكوا في الإسلام.
ولو أن علماء الدين تثبتوا من كمال الإسلام وتأثيره وبينوا الحدود بين الفطرة والشريعة، أو بين الدين والعلم لكان ذلك مرتكزا للدول الإسلامية للتقدم في العلم والتكنولوجيا من ناحية، وحافزا للشباب المسلم حتى لا يتيه في أودية الفكر الغربي ويرفض دينه من ناحية أخرى.
* نهضة الغرب العلمية وتخلف المسلمين فيها، هل تؤثر بالسلب في مجال الدعوة إلى الإسلام كدين خاتم، خاصة مع الذين يعيشون وسط هذه الحضارة الغربية ومباهجها؟** إن حضارة الغرب عارية من الروح وهي ظاهرة حديثة لحضارات اليونان والروم المادية، وهي لامعة في الظاهر لكنها جوفاء من الباطن.
هذه الحضارة الغربية تؤمن بحب الذات والخداع والإرهاب والعدوان والإغارة والتدمير والقتل وإبادة الجنس البشري والفواحش وتخريب الأخلاق. ..هذه هي عناصرها الأساسية. والمجتمع الغربي اليوم غرق في بحر المادية تماما ونسى خالقه وغايته.. فهياكل هذه الحضارة الغربية هي المصانع الكبيرة ودور السينما والمختبرات الكيماوية، وباحات الرقص، وأماكن توليد الكهرباء. وأما كهنة هذه الديانة فهم الصيارفة والمهندسون ونجوم السينما.
والأمم الغربية تعيش اليوم في الترف والتنعم والطرب وليس عندها هدف أعلى وغرض سام إلا رغد العيش وإرواء البطن والفرج، وكأن هذه الدنيا بالنسبة لهم هي جنة المأوى التي ليس بعدها عيشة مرضية. هذه هي النار الإفرنجية التي يحترق فيها العالم كله ويتقدم مسرعا إلى وادي الموت. وما ورد في الأحاديث النبوية عن الدجال وفتنته ينطبق على هذه الحضارة الكاذبة الفتانة، وقد ظهرت علامات كثيرة لهذه الفتنة العمياء وإن صرحت الأحاديث بأن الدجال هو شخص، لكنني أظن أن الوصف النبوي ينطبق على هذه الحضارة.
إن من العلامات الواضحة أن الدجال مكتوب على جبهته الكفر وهو أعور بعينه اليمنى، وليس فيها نور، كأنه ينظر إلى الأشياء بعين واحدة ويغمض الأخرى، وهذه الظاهرة تنطبق على هذه الحضارة الدجالية كليا، فهي تنكر جميع القيم الروحية بكل مكر وخداع، ولا تعترف بأية قيمة إلا من الناحية المادية.
وهي أيضاً تدخل الرعب إلى قلوب الناس بوسائل من العلم والفلسفات، وهذه هي الفتنة العوراء الصماء البكماء التي حذر منها جميع الأنبياء، وبالتالي فيجب ألا تغرنا هذه الحضارة المادية ويجب أن ننقدها ونقول للآخرين إن حضارتكم ستفني وإن أردتم إطالة عمرها فعليكم بالإسلام.
* تحدثتم عن أسباب ونتائج تخلف العالم الإسلامي في مجال العلوم المختلفة والتكنولوجيا ، ولكنكم لم تتحدثوا عن طريقة عملية لكسر قيد التخلف.** الطريقة الوحيدة لكسر قيود وأغلال التخلف والعجز هي الجهاد، وقد شاع فهم خاطئ بين المسلمين بأن الجهاد هو حرب الكفار فقط، لكن الصحيح أن للجهاد مفهوم واسع في الدين، والجهاد في الإسلام نوعان: نوع يتعلق بالعلم والاستدلال بالبراهين، ونوع يتعلق بالجهد في ميدان العمل، وكلا النوعين مطلوب لإعلاء كلمة الله.
فأما الجهاد بالعلم والاستدلال فهو إثبات أصول الدين وتعاليمه بالأدلة العقلية والعلمية الحديثة في ضوء القرآن الكريم وهذا هو الجهاد الكبير بتعبير القرآن [
ولو شئنا لبعثنا من كل قرية نذيرا، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادً كبيراً].
فالله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يجاهدوا الكفار ومنكري الحق، بالقرآن الكريم، الذي فيه من الحقائق والأدلة العلمية ما يصلح لأن يكون حجة ناصعة في كل عصر، وهي اليوم الحقائق الكونية التي تنكشف بالاكتشافات الحديثة، وهذا العلم هو الذي يجدر أن يسمى بعلم الكلام لما له من تأثير كبير في محاجة الكفار والجاحدين لله في عصرنا هذا.
والحاجة ماسة إلى تدوين هذا العلم ومبادئه في ضوء القرآن العظيم والعلوم الحديثة، وفرض على العلماء أن يتفكروا في الظواهر الكونية ثم يتدبروا في كتاب الله العظيم فيستنبطوا منه الأدلة العلمية التي تنكشف بمقابلة الاكتشافات الحديثة والحقائق القرآنية والتي تكون حجة قاطعة على البشر، فلا يكون لديهم مجال للإنكار.
وأما الجهاد العملي فهو الجهد المتواصل في مجال النشاطات المختلفة التي تساعد الإسلام والمجتمع الإسلامي في إقامة صرح التقدم وغلبة الأمم والأديان كلها لتكون كلمة الله هي العليا. ولا يتم هذا الجهاد في العصر الراهن إلا بالنبوغ والتفوق والسبق في مجال العلوم والتكنولوجيا. ثم إن لهذا الجهاد العملي مفهوم عام ومفهوم خاص، فالمفهوم العام هو النشاط العملي في جميع الأعمال المدنية والاجتماعية من منظور إسلامي، والتي تساعد المجتمع لمواجهة أعدائه في الساحة العسكرية، وهذا هو الجهاد الدائم المتواصل في حالة الأمن والخوف وفي حالة العسرة والراحة، وأما المفهوم الخاص للجهاد العملي فهو القتال ومواجهة أعداء الدين.
* المجتمعات الغربية كلما تقدمت في مجالات المادة والعلوم التطبيقية كلما انتشر فيها الإلحاد والاتجاهات الفلسفية المادية.. كيف يمكننا ونحن نبتغي تقدما في مجالات العلوم المادية أن نتجنب هذه السلبيات؟** يجب أن نتذكر أن العلوم قد نمت وازدهرت قبل ذلك في ظلال الإسلام وقامت حضارة ملأت العالم، ولم يحدث الإلحاد والفلسفات المادية لأن القرآن هو الحصن الذي يمنع ذلك. والإسلام يدعو إلى امتلاك ناصية العلوم التطبيقية لينشأ التفكير العلمي في المجتمع وتتأصل الواقعية والجدية ويقضي على عبادة المظاهر، والتبعية الفكرية، والتفكير المظلم. وأيضا لكي تنكشف آيات الله وهي الأدلة العلمية الكونية الكامنة في الكون والتي تظهرها الاكتشافات العلمية، وبذلك يتبين صدق الدين، ونقضي على الأفكار المنحرفة والفلسفات المادية الزائفة، ويظهر التوافق بين الدين والعلم، وبين الشريعة والفطرة، ليستقيم التوازن في المجتمع، وتتكون الحضارة بالمصالحة بين الروح والمادة، لتكون حضارة مثالية خالية من الإفراط أو التفريط.
ومما يؤسف له أن الفلسفات المادية الملحدة قد استغلت النظريات العلمية ولوت عنقها وكستها أزياء المادية قهرا لتخدم أهواءها وأهدافها الشريرة، لكن والحمد الله كان القرن العشرون، بفضل الاكتشافات العلمية الحديثة، وخاصة في علم الفيزياء ، قرن انهزام وانكشاف وفضح هذه الفلسفات المادية والنظريات المنحرفة، سواء في الفلسفة أو علم الاجتماع أو علم النفس أو في السياسة، وباتت الأرض مهيأة الآن لانتشار الدين الذي لا يتناقض مع العلم، بل يتوافق معه أشد التوافق وهو الإسلام [
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون].
* ما هي أهم التحديات التي تواجه المسلمين في الهند؟ ** المسلمون في الهند أقلية رغم أن عددهم يبلغ 150 مليون نسمة، وهذه الأقلية تواجه عدة مشاكل وتحديات، فمن الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يواجهون الاضطهاد العنصري من الهندوس المتطرفين، وكذلك القمع السياسي، والتحديات الداخلية مثل التخلف العلمي والاقتصادي، والفقر المدقع.
وتفاصيل ذلك أن هناك عدة فصائل هندوسية متطرفة لا شغل لهم إلا إثارة المشاكل العدائية ضد المسلمين، واستفزازهم، ويطالبون بمغادرة المسلمين للهند، إلى دولتهم ويقصدون بها باكستان، كما يطالبون بمنع القرآن لأنه يحرض على قتال غير المسلمين كما يدعون.
هذه النفسية تدفعهم إلى إثارة الاضطرابات الطائفية، التي لا يوجد لها مثيل إلا عند الصهيونية والنازية، وهم يدعون أن ثلاثة آلاف مسجد كانت عبارة عن معابد هندوسية، وهم بذلك يطالبون بهدمها ويسعون نحو ذلك، ويساندهم للأسف الحزب الهندوسي الحاكم المتطرف 'بارديا جاناتا'.
أما بالنسبة للتحديات الداخلية فأهمها أن أكثر هذه الأقلية المسلمة لا يعرفون القراءة والكتابة؛ الأمر الذي جعلهم متخلفين في جميع المجالات، ونخص بالذكر مجال الاقتصاد، حيث أن 70% من المسلمين فقراء، كما لا تتوفر وظائف حكومية لكثير من المسلمين، وغير ذلك من المشكلات.
وفي الهند اتجاهان؛ اتجاه يمثله الهندوسية المتطرفة، والاتجاه الثاني يمثله العلمانيون، وأكثر الأحزاب السياسية هم من العلمانيين.
إلا أن الحزب الهندوسي المتطرف استطاع استقطاب بعض هذه الأحزاب العلمانية، حتى يتمكن من الوصول إلى السلطة والحصول على إغراءاتها، مع أن الأحزاب العلمانية الخالصة تتصدى لمواقف الحزب الهندوسي، وتدعو إلى مبادئ العدالة والمساواة والالتزام بمبادئ الدستور الهندي؛ حيث إن الدستور يتضمن مبادئ المساواة والإنصاف والعدل بين جميع الأديان.
والمسلمون الهنود يسعون إلى التنسيق مع العلمانية المنصفة لهم ضد الهندوسية المتطرفة، وهم بهذا يقبلون بمبدأ أخف الضررين.