الوصية النبوية لأبي هريرة "رضي الله عنه"
إن للوصايا أثراً في القلوب، فكم نبهت من غافلين، وكم أيقظت من نائمين، وكم هدت ودلّت لصراط الله المستبين، كم أبكت لله عيوناً، كم أسهرت من خشية الله ألباباً وجفوناً، إنها الكلمة الخالصة الصادقة، التي تحرك القلوب إلى الله، إنها النصيحة والموعظة المذكرة بلقاء الله.
ولقد علم الله حب عباده المؤمنين لآياته وعظاته فكم نزل جبريل عليه السلام بتلك الوصايا العظيمة من الله جل وعلا، تلك الوصايا التي وقفت أمامها قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فخشعت لجلال ربها، وأذعنت لوصيته إذ يأمرها أو ينهاها بتلك الوصايا التي أبكت لله عيون.
إنها الكلمة الصادقة، والموعظة الصالحة، التي يحتاجها المؤمنون في كل زمان ومكان، فالوصية تمطر القلوب بغيث الوحي فتذكره بالله جل جلاله. فلذلك أيها الأحبة في الله، كم نحن بحاجة إلى هذه الوصايا من رب العالمين، ومن رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخوة:
بعد مرور فترة من الزمن، ولحظات من العمر يجلس الوالد مع ابنه فيوصيه، ويقول يل ولدي أوصيك بهذه الكلمات ...
وإذ فيها أجل العظات، وخلاصةٌ من تجارب الحياة، ليسلك به طريق النجاة والأم تجلس مع ابنتها إذ تفارقها لبيت زوجها فترشدها بوصية تنبع منها ينابيع الحكمة والإخلاص فتنجيها من غرقها، وترشدها إلى صلاحها.
والجار مع جاره، والصديق مع صديقه، يتبادلان النصح، فيسددان.
إنها الوصايا .. كم أرشدت حيرى، وكم أفرحت قلباً، وكم أزالت همّاً، وكم أنجت غرقاً؟
أيها الإخوة الكرام:
ونحن في زمن كثرت فيه الماديات، وضاعت فيه الأوقات، وقلّت فيه العبادات، وضعفت فيه القلوب، فما أحوجنا إلى موعظة مذكر، ونصيحة مشفق، ترفعنا وتنفعنا.
هذه الوصية إخوتي الكرام: من أعظم موصي، ومن أحب حبيب، من النبي صلى الله عليه وسلم، فلتصغِ لها أسماعكم، ولتعيها قلوبكم، ولتطبقها جوارحكم، فالله معكم ولن يتركم أعمالكم.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أوصاني حِبي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله أبداً، أوصاني بصلاة الضحى، وبالوتر قبل أن أنام، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر"(1).
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك يا أبا هريرة بخصال أربع، لا تدعهن أبداً متى بقيت. عليك بالغسل يوم الجمعة والبكور إليها، ولا تلغَ ولا تله. وأوصيك بثلاثة أيام من كل شهر فإنه صيام الدهر، وأوصيك بالوتر قبل أن تنام، وأوصيك بركعتي الفجر" (2).
فقول أبي ذر رضي الله عنه أوصاني حِبي، أي نبينا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، لتمكن محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلب هذا الصحابي الجليل، وهذه الوصية له ولأمة الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده.
الوصية الأولى:
أوصيك بالوتر قبل النوم: والوتر يبدأ وقته من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر(3)، والوتر قبل الفجر أفضل، لكثرة الخيرات والبركات والرحمات، ولنزول الله تعالى لقبول الدعوات نزولاً يليق بجلاله وكماله (4). ومن خشي أن لا يقوم قبل النوم، ولوصية النبي صلى الله عليه وسلم وأن أوتر قبل أن أنام ليس لأنه أفضل، بل أنه أحوط وليأخذ الفجر حتى لا يفوت.
فإنها سنّة مؤكدة يحافظ عليها أهل الإيمان والقرآن فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يجب الوتر) (5).
والمسلم كما يحرص على تفقد واجبات أبنائه، وحاجات أهله ومطالبهم العائلية الدنيوية، ويمر على غرفهم، فإن عليه كذلك أن يحضهم على صلاة الوتر قبل نومهم، فما الأولى بأحق من الثانية.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي اله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل وهي معترضة بين يديه، فإذا بقي الوتر أيقظها فأوترت) (6) رواه مسلم.
وفي رواية فإذا بقي الوتر قال: (قومي فأوتري يا عائشة) (7).
وهكذا أهل الإيمان يتواصون ويوقظون أهليهم للصلاة. وصلاة الوتر إخوتي الكرام تؤدى مرّة واحدة في الليلة فمن صلاها قبل نومه، ثم استيقظ من الليل وقد أوتر قبل ذلك كفاه الوتر الأول، وصلّى من الليل ما يُسِّر له مثنى مثنى, أي ركعتين ركعتين يدعو الله فيها في ركوعه وسجوده ويستغفر ربه إلى طلوع الفجر.
والوتر عدد ركعاته فرداً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها ثلاثاً وخمساً ... وأكثرها تسعاً، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك
والمقصود من ذلك أن يحافظ الإنسان عليها سواء بواحدة أو بثلاث أو بأكثر أو بأقل.
أيها الإخوة:
الوصية الثانية: أوصيك بركعتي الفجر لا تدعهما وإن صليت الليل كله فإن فيها الرغائب.
وركعتي الفجر هي السنة القبلية لصلاة الفجر، إذ فيها الرغائب والفضائل والأجور العظيمة.
وقال حاضاً عليها في أشد المواقف: (لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طاردكم الخيل) (9) رواه أبو داود.
ومن هديه عليه الصلاة والسلام انه يقرأ في الركعة الأولى بسورة الكافرون وبالركعة الثانية بسورة الإخلاص (قل هو الله أحد) (10).
الوصية الثالثة: صلاة الضحى:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يصبح عن كل سُلامي من أحدكم صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل مين اثنين صدقة، ويعتني الرجل في دابته فتحمل عليها، أو ترفع له متاعه صدقه، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) (11).
وفي رواية مسلم: (فكل تسبيحه صدقه، وكل تحميده صدقه، وكل تهليله صدقه، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقه، ونهي عن منكر صدقه، ويجزيء من كل ذلك ركعتان يركعها من الضحى) (12).
والوصية الربعة:
صيام ثلاثة أيام من كل شهر: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً) (13) فما أسعد الصائمين، وما أهناهم وهم يفطرون قبيل المغرب، يتقلبون بين النعم، صاموا النهار ليفطروا بأنعم وأشهى ما يتمنون عند رب العالمين والصوم لي وأنا أجزي به.
الوصية الخامسة:
التبكير لصلاة الجمعة وعدم اللهو والغفلة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كم في مسند الأمام أحمد: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الأمام، وأنصت ولم يلغُ، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها) (14) الله أكبر، ما أجملها من لحظات، وما أسعدها من أوقات، وما أنفسها من حسنات، وما أرفعها من درجات.
إنها المسارعة في الخيرات، والمسابقة للطاعات، لا للمغنم الدنيوي، ولا لعرض تجاري، بل:
ركضاً إلى الله بغير زاد ركضاً إلى الله ذي المعاد
التبكير للجمعة، لسماع الموعظة، وإحياء القلب بالتوجيه والتذكير، وربط النفس ببيوت الله.
فجدوا واجتهدوا، واعملوا بهذه الوصية النبوية تفلحوا، فالسعيد من عمل في الدنيا للآخرة، والمحروم من ذكر فلك يتذكر، وكان عبرة للمعتبر!!.