المقـامَــــة الإلـهيـــة
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
(( سـبحانك ما عبـدناك حـق عبـادتك ))
تأمل في نبات الأرض وانظر
عيون من لجين شاخصات
على قضب الزبرجد شاهدات
إلى آثار ما صنع المليك
بأحداق هي الذهب السبيك
بأن الله ليس له شريك
الله رحيم لطيف ، الله بيده الأمر والتصريف ، الله أعرف المعارف لا يحتاج
إلى تعريف ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، ولا نرجو سواه ، عظيم
السلطان والجاه ، أفلح من دعاه ، وسعد من رجاه ، وفاز من تولاه ، سبحان من
خلق وهدى ، ولم يخلق الخلق سدى ، عظم سلطانه ، ارتفع ميزانه ، وجمل إحسانه
، كثر امتنانه .
إليك وإلا لا تشد الركائب
وفيك وإلا فالغـرام مضيّع
ومنك وإلا فالمـؤل خائبُ
وعنك وإلا فالمحدث كاذبُ
علام الغيوب ، غفار الذنوب ، ستار العيوب ، كاشف الكروب ، ميسر الخطوب ،
مقدر المكتوب ، عظمت بركاته ، حسنت صفاته ، بهرت آياته ، أعجزت بيناته ،
أفحمت معجزاته ، جلت أسماؤه ، عمت آلاؤه ، امتلأت بحمده أرضه وسماؤه ،
كثرت نعماؤه ، حسن بلاؤه . ما أحسن قيله ، ما أجمل تفصيله ، ما أبهى
تنـزيله ، ما أسرع تسهيله ، ليس إلا الخضوع له وسيلة ، وليس لما يقضيه
حيلة .
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
والله ما ذكرت نفسي معاهدكم
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
إلا رأيت دموع العين هتانا
يسقي ويطعم ، يقضي ويحكم ، ينسخ ويبرم ، يقصم ويفصم ، يهين ويكرم ، يروي
ويشبع ، يصل ويقطع ، يعطي ويمنع ، يخفض ويرفع ، يرى ويسمع ، ينصر ويقمع
وليّه مأجور ، والسعي إليه مبرور ، والعمل له مشكور ، وحزبه منصور ، وعدوه
مدحور وخصمه مبتور ، يسحق الطغاة ، يمحق العصاة ، يدمر العتاة ، يمزق من
آذاه .
سبحان من لو سجدنا بالجباه له
لم نبلغ العشر من مقدار نعمته
على لظى الجمر والمحمى من الأبرِ
ولا العشير ولو عشر من العشرِ
من انتصر به ما ذل ، ومن اهتدى بهداه ما ضل ، ومن اتقاه ما ذل ، ومن طلب
غناه ما قل ، له الكبرياء والجبروت عز وجل .تم كمالهُ ، حسن جماله ، تقدس
جلاله ، كرمت أفعاله ، أصابت أقواله ، نصر أوليائَه ، خذل أعدائَه ، قرّب
أحبائه . اطلع فستر ، علم فغفر ، حلم بعد أن قدر ، زاد من شكر ، ذكر من
ذكر ، قصم من كفر .
يا رب أول شيء قاله خلدي
فوالذي قد هدى قلبي لطاعته
أني ذكرتك في سري وإعلاني
لأُذهبن بوحي منك أحزاني
لو أن الأقلام هي الشجر ، والمداد هو المطر ، والكتبة هم البشر ، ثم
أثنى عليه بالمدح من شكر ، لما بلغوا ذرة مما يستحقه جل في علاه وقهر .
اعمر جنانك بحبه ، أصلح زمانك بقربه ، اشغل لسانك بمديحه ، احفظ وقتك
بتسبيحه . العزيز من حماه ، المحظوظ من اجتباه ، الغني من أغناه ، السعيد
من تولاه ، المحفوظ من رعاه . أرسل الرسل أفنى الدول ، هدى السبيل ، أبرم
الحيل ، غفر الزلل ، شفى العلل ، ستر الخلل .
مهما كتبنا في علاك قصائداً
فلأنت أعظم من مديحي كله
بالدمع خطت أو دم الأجفان
وأجل مما دار في الحسبان
في حبك عذب بلال بن رباح ، وفي سبيلك هانت الجراح ، لدى عبيدة بن الجراح،
ومن أجلك عرض مصعب صدره للرماح . ولإعلاء كلمتك قطعت يدا جعفر ، وتجندل
على التراب وتعفر ، ومزق عكرمة في حرب بني الأصفر . أحبك حنظلة فترك عرسه
، وأهدى رأسه ، وقدّم نفسه ، وأحبك سعد بن معاذ فاستعذب فيك البلاء ، وجرت
منه الدماء ، وشيعته الملائكة الكرماء ، واهتز له العرش من فوق السماء .
وأحبك حمزة سيد الشهداء ، فصال في الهيجاء ، ونازل الأعداء ، ثم سلم روحه
ثمناً للجنة هاء وهاء . من أجلك سهرت عيون المتهجدين ، وتعبت أقدام
العابدين ، وانحنت ظهور الساجدين ، وحلقت رؤوس الحجاج والمعتمرين ، وجاعت
بطون الصائمين ، وطارت نفوس المجاهدين .
يا ربي حمداً ليس غيرك يحمد
أبواب كل مملّك قد أوصدت
يا من له كل الخلائق تصمدُ
ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
أقلام العلماء ، تكتب فيه الثناء ، صباح مساء ، الرماح في ساحة الجهاد ،
والسيوف الحداد ، ترفع اسمه على رؤوس الأشهاد ، جل عن الأنداد والأضداد .
للمساجد دوي بذكره ، للطيور تغريد بشكره ، وللملائكة نزول بأمره ، حارت الأفكار في علو قدره ، وتمام قهره .
من أجلك هاجر أبو بكر الصديق وترك عياله ، ولمرضاتك أنفق أمواله وأعماله ،
وفي محبتك قتل الفاروق ومزق ، وفي سبيلك دمه تدفق ، ومن خشيتك دمعه ترقرق
. ودفع عثمان أمواله لترضى ، فما ترك مالاً ولا أرضا ، جعلها عندك قرضا .
وقدَّم عليُّ رأسه لمرضاتك في المسجد وهو يتهجد ، وفي بيتك يتعبد فما تردد
.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو
كنا نرى الأصنام من ذهب
نرجو ثوابك مغنما وجوارا
نصب المنايا حولنا أسوارا
فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
تفردت بالبقاء ، وكتبت على غيرك الفناء ، لك العزة والكبرياء ، ولك أجل
الصفات وأحسن الأسماء . أنت عالم الغيب ، البريء من كل عيب ، تكتب المقدور
، وتعلم ما في الصدور ، وتبعثر ما في القبور ، وأنت الحاكم يوم النشور .
ملكك عظيم ، جنابك كريم ، نهجك قويم ، أخذك أليم ، وأنت الرحيم الحليم
الكريم .
من الذي سألك فما أعطيته ، والذي دعاك فما لبيته ، ومن الذي استنصرك فما
نصرته ، ومن الذي حاربك فما خذلته . لا عيب في أسمائك لأنها حسنى ، لا نقص
في صفاتك لأنها عليا . حي لا تموت ، حاضر لا تفوت ، لا تحتاج إلى القوت ،
لك الكبرياء والجبروت ، والعزة والملكوت .
لو أن أنفاس العباد قصائد
ما أدركت ما تستحق وقصّرت
حفلت بمدحك في جلال علاكا
عن مجدك الأسما وحسن سناكا
كسرت ظهور الأكاسرة ، قصّرت آمال القياصرة ، هدمت معاقل الجبابرة ،
وأرديتهم في الحافرة . من أطاعك أكرمته ، من خالفك أدّبته ، من عاداك
سحقته ، من نادّك محقته ، من صادّك مزّقته .
تصمد إليك الكائنات ، تعنو إليك المخلوقات ، تجيب الدعوات ، بشتى اللغات ،
وبمختلف اللهجات ، على تعدد الحاجات ، تفرج الكربات ، تظهر الآيات ، تعلم
النيات وتظهر الخفيات ، تحيي الأموات . دعاك الخليل وقد وضع في المنجنيق ،
وأوشك على الحريق ، ولم يجد لسواك طريق ، فلما قال : حسبنا الله ونعم
الوكيل ، صارت النار عليه برداً وسلاماً في ظل ظليل ، بقدرتك يا جليل .
وفلقت البحر للكليم ، وقد فر من فرعون الأثيم ، فمهدت له في الماء الطريق
المستقيم . ودعاك المختار ، في الغار ، لما أحاط به الكفار ، فحميته من
الأشرار ، وحفظته من الفجار . قريب تجيب كل حبيب .
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
ما خاب من يرجوك عند ملمّةٍ
أنت القوي الواحد القهار
صمدت إليك البدو والحضار
لو أن الثناء ، لرب الأرض والسماء ، كتب بدماء الأولياء ، على خدود
الأحياء ، لقرأت في تلك الخدود ، صحائف من مدح المعبود ، صاحب الجود ، بلا
حدود .
ألسنة الخلق أقلام الحق ، فما لها لا تنطق بالصدق ، وتوحده بذاك النطق .
لا تمن عليه دمعة في محراب ، فقد مزق من أجله عمر بن الخطاب ، ما لك إلى
عبادتك الزهيدة تشير ، وقد نشر الأولياء في حبه بالمناشير .
فاز بلال لأنه ردد أحد أحد ، ودخل رجل الجنة لأنه أحب قل هو الله أحد ،
ومدح سبحانه نفسه فقال : الله الصمد ، ورد على المشركين فقال : لم يلد ولم
يولد .
سبحان من تحدى بالذباب المشركين ، وضرب العنكبوت مثلاً للضالين ، وذكر
خلقه للبعوض إِزراءً بالكافرين ، وحمل الهدهد رسالة التوحيد فجاء بخبر
يقين ، وأهلك ناقه أعداءه المعارضين . خلق الأبرار والفجار ، والمسلمين
والكفار ، والليل والنهار ، والجنة والنار ، وأنزل كل شيء بمقدار . في
القرآن برهانه ، في الكائنات امتنانه ، للمؤمنين إحسانه ، في الجنة رضوانه
، عم الكون سلطانه ، اللهم يا ذا العرش المجيد ، أنت المبدئ المعيد ، أنت
الفعال لما تريد ، أنت ذا البطش الشديد ، لا ضد لك ولا نديد ، كورت الليل
والنهار ، وجعلت النور في الأبصار ، وحببت العبادة إلى الأبرار ، وأجريت
الماء في الأشجار ، أنت الملك الجبار ، والقوي القهار ، والعزيز الغفار ،
أسألك بالأسماء التي بالسمو معروفة ، وأسألك بالصفات التي هي بالمجد
موصوفة .
عن كل عيب تنـزهت ، وعن كل نقص تقدست ، وعلى كل حال تباركت ، وعن كل شين
تعاليت ، منك الإمداد ، ومن لدنك الإرشاد ، ومن عندك الاستعداد ، وعليك
الاعتماد ، وإليك يلجأ العباد ، في النوازل الشداد . حبوت الكائنات رحمةً
وفضلا، ووسعت المخلوقات حكمةً وعدلا ، لا يكون إلا ما تريد ، تشكر فتزيد ،
وتكفر فتبيد ، تفردت بالملك فقهرت ، وتوحدت بالربوبية فقدرت، تزيد من شكرك
، وتذكر من ذكرك ، وتمحق من كفرك ، حارت في حكمتك العقول ، وصارت من بديع
صنعك في ذهول ، أدهشت بعجائب خلقك الألباب ، وأذهلت الخلائق بالحكم
والأسباب ، باب جود عطائك مفتوح ، ونوالك لمن أطاعك وعصاك ممنوح ، وهباتك
لكل كائن تغدو وتروح . لك السؤدد ، فمن ساد فبمجدك يسود ، وعندك الخزائن
فمن جاد فمن جودك يجود ، صمد أنت فإليك الخلائق تصمد ، مقصود أنت فإليك
القلوب تقصد ، تغلق الأبواب عن الطالبين إلا بابك ، ويسدل كل حجاب عن
الراغبين إلا حجابك ، خصصت نفسك بالبقاء فأهلكت من سواك ، وأفردت نفسك
بالملك فأهلكت من عداك، لا نعبد إلا إياك ، ولا نهتدي إلا بهداك ، أقمت
الحجة فليس لمعترض كلام ، وأوضحت المحجة فليس لضال إمام . شرعت الشرائع
فكانت لك الحجة البالغة على الضلال ، وبينت السنن فما حاد عنها إلا الجهال
، نوعت العقوبة لمن عصاك ، وغايرت بين النكال لمن عاداك ، جعلت أسباب
حياته مماته ، علة إِنطاقه إِسكاته ، أحييت بالماء وبه قتلت ، وأنعشت
الأرواح بالهواء وبه أمت ، أشهد أنك متوحد بالربوبية ، متفرد بالألوهية ،
أنت الملك الحق المبين ، وأنت إله العالمين ، وكنف المستضعفين ، وأمل
المساكين ، وقاصم الجبارين ، وقامع المستكبرين .
ولما جعلت التوحيد شعاري ، مدحت ربي بأشعاري ، فقلت في مدح الباري :
هذا أريج الزهر من بستانه
السحر من إخوانه والحب من
أنا ما رويت الشعر من روما
كلا وما ساجلت من عمران
دع لامرئ القيس الغويّ ضلاله
ضل الهداية شكسبير فما روى
لما دعوت الشعر جاء ملبيا
فعففت عن مدح الأنام ترفعاً
لا سيف ذي يزن يتوج مدحتي
أو عاد أو شداد أو ذو منصب
ملك الملوك قصدته ومدحته
والله لو أن السماء صحيفة
والدوح أقلام وقد كتب الورى
لم يبلغوا ما يستحق وقصروا
لو تستجير الشمس فيه من الدجى
أو شاء منع البدر في أفلاكه
حتى الحجارة فجرت من خوفه
وتصدعت شم الجبال لبأسه
وتفتح الزهر الندي بصنعه
والحوت قدسه بأجمل نغمة
حتى الضفادع في الغدير ترنمت
هذى النجوم عرائس في محفل
يا مسرح الأحباب ضيعت الهوى
مجنون ليلى ما اهتدى لرحابه
أو ما قرا عنه وثيقة عهده
الشمس تسجد تحت عرش إلهنا
شعر كأن الفجر في أجفانه
أخدانه والحسن من أعوانه
وما رتلت آي الحسن من لبنانه
أو حطان أو مجنونه أو قبانه
يلقي قفا نبك على شيطانه
إلا نزيف الوهم من هذيانه
يسقى كؤوس الشعر من حسانه
لا تمدحن العبد في طغيانه
أو شكر نابغة على ذبيانه
يُنمى إلى عدنان أو قحطانه
فتراكض الإبداع في ميدانه
والمزن يمطرها على إبانه
مدح المهيمن في جلالة شأنه
وزن الهباءة ضاع في ميزانه
لغدا الدجى والفجر من أكفانه
عن سيره لم يسرِ في حسبانه
والصخر خر له على أذقانه
والطلع خوفاً شق من عيدانه
يزهو مع التسبيح في بستانه
لغة تبز الحسن من سحبانه
بقصائد التقديس في غدرانه
تملي حديث الحب في سلطانه
وضللت يا ابن الطين عن عنوانه
متهتكاً عبثاً مع مجّانه
فيها حديث الصدق من قرآنه
والبدر رمز الحسن في أكوانه
والهدهد احتمل الرسالة غاضباً
غضباً على بلقيس تعبد شمسها
لولاه نوح ما نجا يوم الردى
لما دعاه يونس لباه في
يدعو إلى التوحيد من إيمانه
فسعى لنسف الملك من أركانه
في فلكه المشحون من طوفانه
قاع البحار يضج في حيتانه
اللهم صلى وسلم على نبيك خاتم المرسلين ، ورسول الناس أجمعين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .
من كتاب مقامات الشيخ عائض القرني